الاستثمار في الرياضة بمصر: تمويلات هائلة وقضايا مستمرة

الاستثمار في الرياضة بمصر: تمويلات هائلة وقضايا مستمرة

في ليلة هادئة من صيف 2022، احتفلت جماهير أحد الأندية المصرية الكبرى بتوقيع عقد رعاية يُعد من الأكبر في تاريخ الرياضة المحلية.

كانت الكاميرات تلتقط الابتسامات، والمؤشرات كلها كانت تُشير إلى أن الاستثمار الرياضي في مصر دخل “العصر الذهبي”.

لكن بعد عامين، لم يتغير الكثير الملاعب المهترئة، والأزمات المالية، النزاعات على رئاسة الأندية.. جميعها ظواهر لم تتغير.

والسؤال القديم يتكرر: أين ذهب كل هذا المال؟، فالاستثمار في الرياضة يبدو وكأنه وعد لم يكتمل.

مليارات الجنيهات تُضخ، لكن العائد – اقتصاديًا وجماهيريًا – ما زال ضئيلًا، والشغف الذي يُفترض أن يقدم كصناعة متكاملة، يبدو وكأنه يُهدر في زوايا البيروقراطية، وسوء التخطيط، وغياب النموذج الاقتصادي المستدام.  

شهد عام 2024 ضخ استثمارات قُدرت بنحو 3.5 مليار دولار فى السوق المحلي، إلا أن نصيب القطاع الرياضي لم يمثل بشكل كاف، إذ لم يشهد العام الماضي سوى استحواذ شركة استادات على 4 شركات ناشئة تعمل فى المجال الرياضي بمختلف القطاعات.

قالت فريدة خالد، مدير إدارة الصفقات وإعادة الهيكلة بشركة إيليت للاستشارات المالية، إن القطاع الرياضي فى مصر يُعد فرصة استثمارية واعدة، لكنه لا يزال غير مستغل بالشكل الأمثل نتيجة غياب نموذج اقتصادى واضح، ونقص التشريعات الداعمة، وضعف منظومة الإدارة الاحترافية.

أضافت أن السوق المصرية تزخر بفرص غير مفعلة، فى حين تُدار الأندية فى الخارج بعقلية اقتصادية تحقق عوائد مستدامة، من خلال مصادر دخل متنوعة تشمل الأكاديميات والرعاية والأنشطة الترفيهية.

وأشارت خالد ، إلى أن أبرز التحديات تشمل غياب الشفافية، وتعدد الأزمات الإدارية، وتداخل النشاطات الاجتماعية مع الرياضية، فضلًا عن غياب أصول مالية يمكن الاعتماد عليها لجذب الاستثمارات.

وأوضحت أن حجم الاستثمارات بالقطاع كبير نسبيًا، مشيرة إلى صفقة استحواذ صندوق الاستثمار السعودي على نادى بيراميدز، لكنها شددت على أن أغلب التوظيفات الحالية تفتقر للرؤية طويلة الأجل وتتركز فى صفقات آنية.

اقرأ أيضا: ارتفاع إنفاق أندية كرة القدم العالمية إلى مستوى قياسي في الانتقالات الشتوية

وأكدت خالد، أن نقص الكوادر المؤهلة وغياب تخصصات إدارة الرياضة بالجامعات المصرية من أبرز المعوقات، فى ظل اعتماد الخارج على برامج تعليمية متخصصة تُفرز كفاءات قادرة على تطوير القطاع.

وانتقدت المنظومة التشريعية الحالية، مؤكدة الحاجة لإعفاءات ضريبية وتيسير دخول القطاع الخاص، مشيرة إلى وجود فجوة بين القوانين وآليات التنفيذ تُضعف الثقة فى السوق.

وفى ملف خصخصة الأندية، رأت أن التجربة ممكنة بشرط وجود تشريعات محفزة، وإدارة احترافية، ورقابة فعالة، مع منح المستثمرين حرية إعادة الهيكلة دون قيود على الأفراد أو الهياكل القائمة.

ورحبت بمقترح تحديد مدد رئاسة الأندية، مؤكدة أن ربط الكيان الرياضى بشخص بعينه يُخالف مبادئ الحوكمة ويعيق تداول السلطة المؤسسية.

وحول إنشاء جهاز وطنى مستقل للإشراف على النشاط الرياضى، أيدت خالد الفكرة شريطة اقتصار دوره على الرقابة دون التدخل التنفيذى، بما يدعم الشفافية ويُحسن مناخ الاستثمار.

وبينما تتخبط أندية كبرى في دوامة الأزمات المالية، برزت خلال السنوات الأخيرة نماذج جديدة لأندية أسستها شركات خاصة، استطاعت في وقت قصير أن تثبت حضورها في الدوري الممتاز، وتقدم تجربة اقتصادية وإدارية أكثر انضباطًا وربحية.

هذه الأندية تعتمد على فكر استثماري من البداية، وتدار بعقلية الشركات وليس بعقلية الجمعيات العمومية أو الصراعات الانتخابية، وهو ما منحها مرونة في اتخاذ القرار، ودقة في الإنفاق، ورؤية طويلة المدى.

ومن أبرز هذه النماذج، نادى بيراميدز للاستثمار الرياضى والذي استحوذ عليه رجل الأعمال السعودي، تركي آل شيخ، تحت اسم الأسيوطى وحوله لأحد أنجح الأندية منافسة على الألقاب المحلية والقارية، خاصةً بعد انتقال الملكية لمستثمرين مصريين، والتى استمرت فيها سياسة الإنفاق الكبير والاحتراف الإداري.

كما برز نادي “فيوتشر إف سي” بعد الاستحواذ على نادي كوكاكولا ، وعن طريق إدارة محترفة تأهل النادي الإفريقية في عامه الثاني، حيث يملكه تحالف من مستثمرين وشركة “استادات الوطنية”، ما يمنحه دعمًا ماليًا وتنظيميًا قويًا.

ولا يمكن تجاهل تجربة وادي دجلة والذي يستمر كأحد أفضل شركات الأندية نجاحًا في تسويق اللاعبين، خاصةً مع تألق عمر مرموش في “مانشستر سيتي”، وغيره في الألعاب الفردية كعلي فرج، لاعب الاسكواش العالمي.

ولم يغب رجل الأعمال، نجيب ساويرس عن اقتناص أحد هذه الفرص الاستثمارية القوية ليقوم بتطوير نادي زد إف سي التابع لمجموعة أورا، وسط تركيز منه على تطوير الناشئين، وامتلاك أكاديميات حديثة وبنية تحتية قوية في الشيخ زايد.

هذه الأندية، رغم حداثتها نسبيًا، نجحت في تكوين فرق قوية، ووضع قواعد استثمارية واضحة، وتجنب الكثير من أزمات الصراع الانتخابي والإداري التي تضرب أندية كبرى مثل الأهلي والزمالك والاتحاد.

القيعي: غياب مبادئ الشفافية والسلامة المالية يشكل خطرًا على أي مستثمر جاد

قال عدلي القيعي، مستشار التعاقدات السابق بالنادي الأهلي، إن الحديث عن الاستثمار في الرياضة لا يزال “فضفاضًا” في مصر، في ظل غياب تعريف واضح لمفهوم الاستثمار الرياضي، إلى جانب ضعف في الإطار التشريعي والرقابي الذي يفترض أن يحكم القطاع.

وأوضح القيعي، أن الاستثمار الرياضي الحقيقي يجب أن يُفهم بمفهومه الاقتصادي، أي ضخ أموال بهدف تحقيق عوائد، سواء من خلال بيع اللاعبين، أو تعظيم قيمة الأندية، أو حتى من خلال الاستثمار في البنية التحتية والرعاية والإعلانات.

وأضاف أن هناك من يشتري أندية من الدرجات الأدنى، ويطوّر بنيتها، وبيعها مرة أخرى بعائد أكبر محققًا أرباح، مشيرًا إلى أن هذا هو الاستثمار الرياضي بمفهومه الصحيح. لكن الحديث عن وجود استثمارات بمعنى شراء لاعبين فقط دون نظام اقتصادي حاكم، فذلك غير كافٍ.

وأكد القيعي، أن غياب الالتزام بالتشريعات الحالية، وافتقار السوق الرياضي لمبادئ الشفافية والسلامة المالية، يشكل خطرًا على أي مستثمر جاد، موضحًا أنه إن لم تكن هناك رقابة فعالة، وبيئة خالية من غسل الأموال أو التلاعب في نتائج المباريات، فلن تجد مستثمرًا محترمًا يضع أمواله في هذا القطاع.

وعن مشروع القانون الرياضي الجديد، أشار القيعي إلى أن تحويل أنشطة كرة القدم داخل الأندية إلى شركات مستقلة – كما فعل النادي الأهلي – هو اتجاه جيد إذا تم تنفيذه بشكل مدروس، لكنه لا يعني بالضرورة تحويل النادي بأكمله إلى شركة.

وأضاف أن التحول لشركة لا بد أن يكون على النشاط الرياضي نفسه، وليس على الكيان الاجتماعي الكامل للنادي.

من جانبها، تعمل وزارة الشباب والرياضة على تطوير قانون رياضي جديد يشمل عدة بنود تتم دراستها حاليًا في مجلس النواب، أبرزها السماح بتحويل الأندية الرياضية إلى شركات مساهمة، تمهيدًا لخصخصتها أو طرحها في البورصة.

هذه الخطوة، التي طال انتظارها، تهدف إلى فتح الباب أمام استثمارات خاصة أكثر فاعلية، وتخفيف العبء المالي عن الدولة، وخلق كيانات رياضية مستدامة لا تعتمد فقط على دعم الجمهور أو التمويل الحكومي، بل على نموذج اقتصادي متكامل يربط بين الرياضة والصناعة.

ونص القانون في المادة (71) مكررا من المشروع على جواز خصخصة الأندية الرياضية وتحويلها إلى شركات مساهمة لإتاحة بيعها أو طرحها في البورصة، وذلك رغم أن الدراسة المشتركة من وزارتي العدل والشباب والرياضة – المرفقة بكتاب وزارة العدل رقم (562) – قد خلت من الوقوف على بيان الطبيعة القانونية لتلك الأندية الرياضية وطبيعة ملكيتها.

عمارة: جزء كبير من الإنفاق جاء بدوافع عاطفية أو انتمائية من رجال أعمال

قال ياسر عمارة، العضو المنتدب لشركة إيجل للاستشارات المالية، إن الاستثمار الرياضي يُعد من القطاعات الواعدة والجاذبة للبنوك الاستثمارية وصناديق رأس المال المغامر والمستثمرين، نظرًا لتنوع الفرص الكامنة فيه، والتي لم يتم استغلالها بالشكل الأمثل حتى الآن.

وأوضح أن القطاع لا يقتصر على الأنشطة الرياضية فقط، بل يشمل باقة واسعة من المنتجات والخدمات، من بينها التسويق الرياضي، الذي لا يزال سوقًا بكراً في مصر، على الرغم من إمكانياته الضخمة.

وضرب مثالًا بتجربة نادي بيراميدز، إذ تحوّل خلال أقل من 5 سنوات من نادٍ مغمور إلى منافس على البطولات المحلية والإفريقية، بفضل استحواذ مستثمرين خليجيين عليه، وضخ استثمارات واضحة في البنية الإدارية والفنية وضم لاعبين مميزين.

وأشار عمارة، إلى أن حجم الاستثمارات التي دخلت القطاع الرياضي في السنوات القليلة الماضية كان كبيرًا، ويتجلى ذلك في ارتفاع القيمة السوقية لعدد من الأندية مثل الأهلي والزمالك والاتحاد والمصري وبيراميدز، إلا أن جزءًا كبيرًا من هذا الإنفاق جاء بدوافع عاطفية أو انتمائية من رجال أعمال، وليس نتيجة نموذج استثماري منظم ومستدام.

وأكد أن التحدي الرئيسي أمام تنمية الاستثمار الرياضي هو غياب التسويق الجيد للخدمات الرياضية والمناسبات المحلية والدولية، إلى جانب عدم وضوح نماذج الأعمال والعوائد المتوقعة، وهو ما يجعل بعض المستثمرين مترددين في دخول السوق.

وانتقد عمارة ما وصفه بـ”الارتجال والعشوائية” في إدارة الأصول الرياضية، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الكيانات التي أنشأتها مؤسسات كبرى مثل البنوك أو شركات البترول والعقارات، لم تهدف لتحقيق أرباح مباشرة من النشاط الرياضي، بل كانت تسعى إلى تعزيز حضورها التسويقي والدعائي فقط.

أضاف أن الدولة اتخذت خطوات إيجابية في تنظيم القطاع، من خلال قانون الرياضة الجديد الذي أتاح تحويل الأندية والمنشآت الرياضية إلى شركات مساهمة، بل ومنحها حق القيد في البورصة حال استيفاء الشروط، وهو ما يُعد نقلة نوعية في هيكلة القطاع.

ودعا عمارة، إلى الموافقة على تأسيس “الجهاز الوطني للاستثمار الرياضي”، وهو كيان حكومي يتبع رئاسة مجلس الوزراء، تكون مهمته تنظيم السوق وضمان استدامته، إلى جانب اقتراحه لتحديد مدة زمنية واضحة لمجالس إدارات الأندية، بما يضمن تطبيق مبادئ الحوكمة والاستقرار الإداري.

ربما لا يكون الحل في ضخ المزيد من المال… بل في إعادة تعريف معنى النادي الرياضي نفسه. هل هو مجرد كيان يمارس نشاطًا اجتماعيًا ورياضيًا؟ أم أنه يجب أن يتحول إلى شركة متكاملة، تُخطط وتُنتج وتُدر أرباحًا وتُحاسب على كل قرش يُنفق؟.

في الوقت الذي تواصل فيه شركات خاصة رسم نموذج جديد أكثر كفاءة – كما فعلت “فيوتشر” و”بيراميدز” و”زد” – تحاول الدولة اللحاق بالركب من خلال قانون جديد يُمهد لتحويل الأندية إلى شركات مساهمة، في محاولة لتحريرها من قبضة البيروقراطية والتمويل الحكومي، وفتح الباب أمام استثمار حقيقي ومستدام.