أسعد هيكل يكتب لـ«الحرية»: في ذكراه وحب العم «جورج وسوف»

أسعد هيكل يكتب لـ«الحرية»: في ذكراه وحب العم «جورج وسوف»

جورج اسحق، اسم كُتِبَ بحروف من نور في ذاكرة الوطن، كان جمال وقيمة العم جورج كما كنا نحب ان نناديه حين نخاطبه او نتحدث عنه، انه كان رمزا وطنياً، وامتداد لجيل عظيم من رجال مصر الخالدين، عرفته عن قرب، متسامحاً كريماً، لا مسلماً ولا مسيحياً، انساناً مصريا وحسب.
إن “رمزيةٌ” جورج إسحاق التي اتحدث عنها، ليست مجرد كلمة عابرة في هذا المقال علي سبيل المدح أو الرثاء لرجل انتقل الي رحمة الله، بل ما أقصده هنا هو وصف لحالة اصيلة داخلنا، عشناها معه، وعاشها كل المصريين في الأيام الاولي لثورة يناير العظيمة، تلك الأيام الخوالي التي كنا نحلم فيها بالعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية.
كان جورج هناك، معنا في ميدان التحرير، رمزاً لهذه الحالة الجميلة التي كنا نعيشها في سحر هذا الميدان، الذي ما إن كنت تدخله حتى تذوب فيه مع جموع المصريين، كأن شيء أحيا انسانيتنا ومصريتنا من جديد، وجعلنا حقاً أمة واحدة، شيء تتمني أن يدوم ولا يزول، شيء مثل يوم الحج الأعظم، حينما يقف الناس جميعا متساوون، لا فرق بينهم، كان هذا الشيء هو اننا جميعاً متساوون في الحقوق والحريات، حلمنا واحد، مصيرنا واحد، لا فرق فينا بين مسيحي ومسلم.
كان هذا من أجمل معاني ثورتنا وأهدافها، وكان جورج اسحق رمزاً من رموزها الجميلة المنيرة المشرقة.
رحل جورج اسحق، الذي كنت اراه انسب من يصلح ان يكون رئيساً لوزراء مصر بعد الثورة، وكنت حين اقول له هذا يضحك، ويقول بصوته الهاديء وتواضعه الجم يا ابو السعود هناك افضل مني كثيرين، واذا بي اتفاجأ به بعد ذلك يرشحني وزميلي اشرف طلبه المحامي لعضوية المجلس القومي لحقوق الانسان.
حدث هذا في نهاية عام 2011 او اوائل عام 2012 لا اذكر تحديداً، لكن ما اذكره انه كان منوط به حينذاك مع الوزير احمد البرعي تشكيل المجلس القومي لحقوق الانسان، لكن المفارقه العجيبه والصادمة لي وله، وقد ابلغني بها بعد ذلك بحرج وادب واعتذار رقيق انه قد رفض ترشحنا!! وان هذا الرفض جاء من شخص ما كنت انا أوهو نتوقع ان يكون هو ذلك الشخص في نقابة المحامين!
اذكر هذا الان ليس بهدف غاية او مراد، فقد مضي ذلك الزمان، واصبحت زاهداً في ذلك المنصب او ذاك، ولكني اذكره، لاقول ان صدمة جورج اسحاق، كانت في انه كان يري ويعرف ويعيش معنا حينذاك ما كانت تقوم به لجنة الحريات بنقابة المحامين من اعمال قانونية عظيمة خلال احدث ثورة 25يناير، من تلقي وتقديم البلاغات وحضور التحقيقات والمحاكمات وعقد الندوات والمؤتمرات وتنظيم الاحتجاجات والمسيرات، وهي اعمال يتطلب تسطيرها والتذكير بها عشرات المجلدات، اسأل الله ان يمنحنا القدرة ان نكتب عنها وعن ما قاموا بها.
كانت عظمة جورج اسحاق التي اذكرها له في هذا الموقف، ليس لترشيحه لشخصي المتواضع او ترشيح زميلي، بل كانت انتصاراً للمصلحة العامه وتقديمها علي المصلحة الخاصة، بينما انتصر الشخص الاخر لشيء اخر، فكان العم اسحاق يتمتم متعجباً ومتسائلاً كيف يرفض هذا، و هو يعلم ان هناك اعمال قانونية هامه تقوم بها لجنة الحريات وان وجود ممثلين عنها بالمجلس سيساعد كثيراً في انجازها واستكمالها؟!
بقي ان اذكر للعم جورج موقفين انسانيين، من عشرات المواقف السياسية والاجتماعية التي اتذكره بها ، الاول كان درساً سياسياً خلال الاشهر الاولي لتأسيس حركة كفاية عام 2005 تقريبا، في اجتماع تنظيمي علي مستوي المحافظات عقد بمقر حزب الغد بميدان طلعت حرب، كان فيه حريصاً ان يتحدث بنفسه مع كل منسقي المحافظات، ثم يقدمني اليهم، كقيادي بالحركة، رغم انه لم يكن يعرفي كثيرين في هذا الاوان، فمنحني وقتها ثقة كبيرة، ودفعني دفعة قويه في المضي قدماً نحو العمل السياسي.
اما المواقف الانسانية لجورج رحمة الله عليه فكثيرة ومتعددة، يحضرني منهم قصتين ، اختصر اولهما، في ان سيدة بسيطة قد حضرت اليه ذات يوم بمكتبه الكائن بمنتصف شارع طلعت حرب عند محل العبد، وكنت اجلس معه حينها، لتطلب منه ان يساعدها في استرداد بعض حقوقها القانونيه الضائعه منها، فاستمع اليها جيداً وكأنه محامي يستمع الي موكلته، ثم اعطاني كافة الاوراق في حضورها ثم طمئن السيده وبعد ان انصرفت، اذا به يخرج من جيبة بضع اوراق ماليه ويطلب مني ان اخذها نظير اعمال المحاماه التي ساقوم بها!.
اما القصة الثانيه فكانت لشيخ وامام مسجد كبير في حي عين شمس بشرق القاهرة، كان قد حُكِمَ عليه ظلماً في احدي القضايا، وتم ترحيله في ذات يوم الجلسة التي حكم عليه فيها من المحكمة الي قسم شرطة عين شمس، حيث حبس هذا الشيخ الكبير في حجز القسم الممتليء بالمحبوسين، فاغمي عليه وكاد ان يختنق ويفارق الحياة، وكانت بنته الكبري قد هاتفتني تليفونيا وهي في حالة انهيار شديد، تنشد انقاذ ابيها.
كان الوقت متاخراً من الليل، وعلي الفور ودون تفكير اتصلت بجورج اسحق، لاستمع طويلا لأغنيته الكلاسيكية الجميله عبر سماعة التليفون “يا دنيا يا غراامي .. يا دمعي يا ابتسامي”، حتي استيقظ من النوم، فاخطرته بما هو حادث، ولم تمضي دقائق حتي عاودت ابنه الرجل الكبير الاتصال بي مرة اخري من امام قسم الشرطة لتقدم الشكرعلي حضورعربة اسعاف، واخراج ابيها من حجز السجن وانقاذ حياته.
اما عن جورج والحرية، فكان العم جورج مؤمنا بها حتي في اصعب الاوقات، اذكر اني كنت اتنافش معه ذات مره، وانا في خجل مما كان يكتبه بعض الغلاه عنه من تجاوز وتجريح ، خلال النصف الاول من عام 2013، بعد ان فقدت الثورة بصلتها، وتم اقصاء ثوارها عمداً عن المشاركه في استكمال مسيرتها، فكان العم جورج يسبقني ويقول انا اعرف ما يكتب، وليكتب كلً ما يشاء، احنا فتحنا للناس باب الحريه ولن نكون نحن من نغلقه، حتي ولو اصابنا منه ضرراً او ايذاءَ، فكان هذا درسا اخر تعلمته منه.
كان هذا قطر قليل من فيض كثير ، تقديراً وحباً ورثاءً لعمنا جورج اسحق، الذي اذا ما اطلقت عنه للقلم العنان، فلن يتوقف مداده عن الجريان، ولن تكفي الاف الصفحات، للحديث عن هذا الرجل المصري الوطني، الانسان، الذي قلما ان يجود بمثله الزمان.
نسأل الله ان يعوض بلادنا العزيزة مصرعن فقده، وان يلهم اسرته ومحبيه الصبر والسلوان، وان يتقبله سبحانه وتعالي بعفوه ومغفرته ورحمته وان يسكنه فسيح جناته، ورحم الله امواتنا اجمعين.
بقلم/ اسعد هيكل