الديواني: الخط الذي يستجيب لنداء الروح

الديواني: الخط الذي يستجيب لنداء الروح

الشارقة: رضا السميحيين

منذ أمر الله إبراهيم عليه السلام، بعد انتهائه من بناء البيت العتيق، أن يؤذن في الناس بالحج، فقال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) الحج: 27، منذ تلك اللحظة، والقلوب تهفو، والأرواح تشد رحالها إلى بيت الله الحرام، تلبية واستجابة لأمر سماوي لا يقاوم، ليكون نداء يتردد في حناجر الحجيج كل عام، باقياً عبر الزمن، خالد الآثر في صفحات الكتب، منسوجاً في الزخارف، ومنقوشاً على الجدران.

في شعائر الحج، حيث تمتزج العبادة الجسدية بالروحانية، يحتاج التعبير عن المشهد، إلى لغة قادرة على احتضان العاطفة التي تجتاح الحجاج، وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية على جبل عرفة، هي لحظة تختصر كل ما في القلب من شوق وتسليم، والفنان المتمكن يستطيع أن يكتب بالمداد ما يعجز عن وصفه اللسان، فالحج في الوجدان الإسلامي، حالة تجلٍّ روحانية في رحلة سفر مقدسة بين أركان الحج، فيتجدد الشوق من خلال الحرف والهيئة والظل والضوء.

وتبقى هذه الأعمال الفنية المشحونة بعاطفة فطرية سليمة، قادرة على انتشالنا من الزحام، وإعادتنا إلى الجوهر، كما في لوحة «لبيك اللهم لبيك» للخطاط أحمد إسكندراني، التي نستشعر من خلالها رهبة عرفات، وشوق الطواف، ودعاء الملتزم.

تكوين

في هذه اللوحة التي خطها إسكندراني بالديواني، تستحضر لحظة «التلبية» بكل إشراقها الروحي، ليشعر الناظر إليها وكأنه يسمع أصوات الحجيج تتردد في وادي مكة، في صباح يوم التروية، وعلى صعيد عرفات، وتتحول الحروف إلى خطوات، كل تقوس في الحرف فيها وكأنها انحناءة ظهر حاج في طواف، وكل امتداد فيها كأنه ذراع مرفوعة إلى السماء، ترجو وتبتهل.

الديواني المستخدم في التنفيذ، في طبيعته اللينة والمتدفقة، يحمل من الطواعية ما يجعله أقرب الخطوط إلى الروحانية، بما يتمتع به من ليونة وخفة وانسياب، كأنه ماء زمزم يتخلل أوردة الحرف، وفي اختيار هذا الخط تحديداً، دلالة على رغبة الخطاط في أن تكون التلبية رقراقة، مفعمة بالوجد، عذبة كدعاء الحجاج وهم يتأملون تجلي العبادة في مظهر بصري أخاذ، فالحج ومناسكه له امتدادات ثقافية وجمالية تتجلى هنا في كيفية تموضع الحروف وتداخلها، والتكرار البصري لكلمة «لبيك»، الذي يرسم مشهداً يوازي مشهد حشود الطائفين حول الكعبة، صفوف لا تنقطع، ونداء لا يخفت، تكون فيها التلبية ليست لحظة، بل حال دائم، وولاء ممتد.

نرى «اللهم» في قمة اللوحة، كمركز جذب روحي، تتفرع منه بقيّة الكلمات، أما تكرار «لبيك» في محيطها، فهو دوران روحي حول المعنى، كما يطوف الحجيج حول البيت، والألوان الذهبية والبيضاء المتدرجة، تتناوب كأنها ليل ونهار في المشاعر، بين نور الفجر في مزدلفة، ووهج الشمس في عرفات، وظلال الرحمة التي تعم الخيام في منى.

في خلفية اللوحة، نبصر عالماً بصرياً لا يقل قداسة عن الكلمة المكتوبة، لونها الداكن الغني، بين الأسود والبني العميق، خلق حالة من السكون البصري، يشبه السكون الذي يسبق طلوع شمس عرفة، حيث تتقلص الأصوات أمام مهابة اللقاء، ونرى زخارف دقيقة متداخلة، تشبه النسيج الإسلامي القديم، وكأن الخلفية نفسها تعيد تشكيل عمارة الروح، بأقواسها، ونقوشها، وخطوطها الخفية التي تهمس بتراتيل الحجيج.

أما الألوان التي تعانق الخط، من الذهبي الدافئ إلى الأبيض المضيء، فتحمل جملة من الإشارات الرمزية العذبة، فالذهبي نظير الصفاء الإلهي، والنور الذي يتسرب إلى القلب المشتعل بالإيمان، بينما الأبيض يحاكي لون الإحرام، ونقاء النية، وشفافية العبد بين يدي الله، واستخدام التدرج بين اللونين منح الحروف بعداً حياً، كأنها تتحرك، تتنفس، تردد التلبية من تلقاء نفسها.

اللوحة تكشف عن مهارة فنان سكب في كل منحنى من الحرف تأملاً خاصاً، في حركة الخطوط، وتوازن توزيع الكلمات، وتكرار «لبيك» في نسق حلقي متكامل، مما شكل توليفة بصرية تفيض بالتناسق والتأمل، وجاء كل جزء في اللوحة كصدى روحي للجزء الآخر، حتى الخلفية المزدحمة بالتفاصيل لا تطغى، بل تبرز النص، وكأن الحروف خطت على ستار الكعبة.