المخدرات: سموم تدمر صحة الوطن

المخدرات: سموم تدمر صحة الوطن

كلنا نتذكر الجريمة المرعبة التي تمت  في الإسماعيلية، عندما ذبح مواطن مواطنا آخر في الطريق العام ولم يكتفي بذلك، بل قطع رأسه عن جسده وراح يدور حول الجثة حاملا رأس القتيل، أكدت التحقيقات في حينها أن القاتل مدمن لمخدر اسمه الشابو، لذلك جاءت الصدمة إلى تلك المدينة الهادئة التي يعبرها التاريخ كما يعبرها المارة إلى القناة، المشهد لم تألفه حتى أكثر أفلام الرعب دموية جسد مرمي بلا رأس، والرأس مفصول عنه بوحشية على قارعة الطريق، لم يكن ذلك مشهدًا من مسلسل درامي بل واقعًا صادمًا يحمل بصمة واحدة متكررة وهي المخدرات.
ليست هذه الحادثة معزولة عن سياق أوسع، ولا الإسماعيلية استثناءً، بل هي مجرد وجه صارخ من وجوه الانفلات المجتمعي الذي تسببت فيه السموم البيضاء والسوداء والملونة، المتداولة في أيدي الشباب كأنها علكة رخيصة، من “الاستروكس” إلى “الشابو”، ومن “البانجو” إلى “الترامادول”، أصبح التعاطي لا يقتصر على المناطق المهمشة، بل طال كل شارع وزقاق، وصار القاتل والمقتول تحت تأثير نفس اللعنة.
لذلك يتفق الجميع على أن المخدرات هي الجذر السام لكل الجرائم، والقتل ليس سوى المرحلة الأخيرة في مسلسل طويل من الانهيارات، تبدأ الحكاية غالبًا بلفافة صغيرة، أو قرص يُتناول خلسة خلف مدرسة أو مقهى، ثم يتحول المتعاطي إلى كائن مشوش، ينحدر سريعًا نحو هاوية لا قرار لها.
أغلب وقائع السرقة بالإكراه، وتحديدًا سرقة الهواتف والدراجات النارية، يتم ضبط المتورطين فيها تحت تأثير المخدر، حوادث التحرش والاغتصاب، التي تصاعدت مؤخرًا بحدة، كثيرًا ما يكشف التحقيق أن الجاني كان “طالع” أو “واقع” بفعل مادة مخدرة أفقدته السيطرة. التقارير الموثقة تؤكد على أن نسبة عالية جدا من الجرائم المرتكبة في مصر ترتبط بتعاطي المخدرات بشكل مباشر أو غير مباشر، بل إن بعض الجرائم وقعت لأن الجاني كان بحاجة إلى ثمن الجرعة التالية فحسب!
جريمة الإسماعيلية المشهورة كانت جرس الإنذار الأكثر فجاجة، لأنها لم تكن مجرد جريمة قتل، بل تعبير فج عن انهيار الحدود بين الإنسان والوحش. الجاني – كما كشف التحقيق – كان تحت تأثير مخدر “الشابو”، وهو من أخطر المواد التي تُسبب نوبات هوس وعدوانية وجنون مؤقت، لم تكن تلك أول حادثة عنف غير مبرر ترصدها الأجهزة المصرية، والمتابع لصفحات الحوادث بالصحف يقرأ يوميا عن حوادث طعن وسحل واعتداءات بالأسلحة البيضاء، خاصة في الأحياء الشعبية.
وتبقى آمال الضحايا معلقة في أي تحركات أمنية استباقية للحد من انتشار المخدرات والبلطجة والسفالة، لذلك لم يكن غريبا أن نرى احتفالات الناس ابتهاجا بأي حملة أمنية لتدمير وكر أو التخلص من فاسد، ويطلب الناس المزيد لمعالجة بيئة التفكك الأسري والفقر التي تُنبت هذه الآفة.
لا يمكن أن نتحدث عن هذا النزيف الاجتماعي دون أن نوجه السؤال الصعب أين دور الشرطة؟ الناس يحلمون – -رمزيا- بعسكري الدرك القديم الذي كان يصرخ في اول الشارع “هااا مين هناك”
المتابع لتطورات المشهد الأمني يلاحظ بوضوح الغياب كثير من المناطق، خاصة الشعبية والعشوائية، وندلل هنا بما تسمى جمعية العاشر من رمضان بالإسماعيلية والتي تبلغ مساحتها 22 الف فدان حيث صار الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، السرقة في عز النهار واللصوص معروفون بالإسم ولكن قسم الضواحي التابع لها الجمعية لايعرف، ناهيك عن المخدرات التي تُباع المخدرات ولها سوق رائجة بين اوساط المدمنين في هذه البقعة، دون أن تلمسها يد القانون، وكأن هناك اتفاقًا غير معلن على التجاهل.
غياب المتابعة الأمنية في بعض الأحيان، أفقد المواطنين الثقة في قدرة الدولة على حمايتهم، ويعطي الفرصة لميلاد “النخانيخ” اصحاب السلطة البديلة ليلجأ إليهم الضحايا لاسترداد حقوقهم.
ما نشهده ليس فقط تفشيًا للجريمة، بل انهيارًا لبنية المجتمع النفسية والقيمية، عندما تُصبح الجريمة حدثًا معتادًا، وتتحول منازل المصريين إلى قلاع مغلقة خوفًا من المجهول، فنحن لا نواجه مجرد ظاهرة اجتماعية بل قضية أمن قومي حقيقية.
الإدمان ليس مرضًا فرديًا بل جائحة تهدد مستقبل أمة، وتكلف الاقتصاد الوطني المليارات سنويًا، وتُفقدنا أجيالًا كاملة. هل يعقل أن يصبح سن بدء التعاطي في بعض الأحياء 12 سنة؟ هل ننتظر أن نجد تلاميذ الابتدائي يحملون شفرات حلاقة بدلًا من الأقلام؟
وهنا نسأل السؤال التاريخي ما العمل؟ الاجتهاد في الإجابة يذهب بنا أولا إلى الإرادة السياسية بإعلان التصدي لهذا الظواهر ويقول صراحة بأن هذه المعركة أخطر من مواجهة الإرهاب، فالإرهاب قد يقتل العشرات، لكن المخدرات تقتل المجتمع كله من الداخل، ببطء وإصرار.
المطلوب ليس فقط حملات فجائية من الداخلية، بل خطة وطنية دائمة تبدأ من المدارس، تشمل دعم صندوق علاج الإدمان، وتشديد العقوبات على المتاجرين بالمخدرات، وفرض رقابة أمنية حقيقية على البؤر السوداء، مع إعادة هيكلة الجهاز الأمني في المحافظات التي تشهد انفلاتًا.
كما أن دور الإعلام في توعية الجمهور بخطورة المخدرات أصبح ملحًا، بعد أن تحول بعضها إلى “موضة شبابية” بين المراهقين، بسبب الغياب الصارخ لرسائل التوعية الجادة في السينما والدراما.
ذلك الرأس المفصول في شارع الإسماعيلية كان بمثابة نداء استغاثة، والذي اطلق النداء هو جسد الوطن. إن لم نُصغِ له، ونلتفت بجدية للمستقبل، فسوف نستيقظ على رؤوس كثيرة تتطاير، لا على الأسفلت فقط، بل في كل بيت فقد فيه الأب ابنه، أو الأم ابنتها، أو الوطن أمله، والقاعدة الأساسية بسيطة جدا، وهي أن الأمن والأمان حق، والوقاية من الجريمة أفضل من البكاء على الدم المسكوب.