عيد فريد في الصعيد

عيد فريد في الصعيد

هذه المرة العيد مختلف فى قريتى.. عيد شاحب.. مر.. صامت.. إلا من طلقات الرصاص التى أنارت بعض الليالى الحارة وحولتها إلى فزع ورعب من قادم لا نريده. قريتى الصغيرة فى سوهاج تحترف مثل كل قرى الصعيد اقتناء الأسلحة منذ زمن بعيد.. والشرطة تبذل مجهودًا خرافيًا فى مواجهة هذه العادة المزعجة لمنع عودة الثأر البغيض.. لكن الطلقات هذه المرة جاءت من طريق آخر مختلف.. طريق الشابو الذى تحول إلى لعنة تهدد عقل وقلب بلاد الصعيد المتعب من الأصل. دخل الشابو.. وهو نوع جديد من أنواع المخدرات المخلقة إلى بلادنا قادمًا من بلاد الخليج مع العمالة العائدة.. كان غاليًا فى البدايات، الجرام منه بثلاثة آلاف جنيه، فلم يكن يقتنيه سوى العائد بأموال الخليج كنوع من الفشخرة وادعاء التمايز.. ثم فى سنوات قليلة صار سعره سبعين جنيهًا فقط.. وانتشر كبديل البانجو؛ آخذًا فى طريقه الأخضر واليابس.. أعراض الإصابة بهذا الكابوس مفزعة، واحتمال الشفاء منه قليل.. وصل الماء إلى الحلقوم وبدأ الناس فى التذمر.. مطاردات الشرطة لم تتوقف لكنها غير كافية.. بعض القرى هاجت ضد تجار الشابو وأحرقوا بيوتهم، كما حدث فى أسوان وقرية فى جرجا. ثالث أيام العيد.. فزعت قريتى على صوت صراخ.. رجل غلبان يعمل سائقًا على باب الله.. عاجله تجار الشابو برصاصات غادرة أصابته إصابة بالغة ونقله الأهالى إلى المستشفى، لكنه غادر الحياة ولم تنجح عملية إسعافه.. لم يفعل الرجل شيئًا ولا علاقه له بتجار الشابو سوى أن شابًا من عائلته سحب على النوتة من هذا المدعوق بمبلغ عشرة آلاف جنيه ولم يدفع.. فذهب إليه تجار الشابو عند بيته لإجباره على الدفع.. روعوا من فى الشارع بإطلاق رصاص عشوائى، فأصيب السائق المسكين تاركًا أسرة لا تعرف ماذا تفعل فى قادم الأيام.. القرية بحالها خرجت فى وداع الرجل تبكى.. مشهد حزين مربك.. حالة غضب تسيطر على الجميع. فى اليوم التالى.. أقيم فرح لعريس شاب.. جاء مجاملون كما هى العادة.. أطلق أحدهم الرصاص.. أصابت إحداها رجلًا لا حول له ولا قوة كان ينام فى بلكونة بيته طلبًا لنسمة هواء فى حر الصعيد القاسى. غضب يتزايد من هذه العادة السخيفة.. ماذا يكسب أحدنا من إطلاق خزنة التى ثمنها ثلاثة آلاف جنيه فى دقيقة واحدة؟.. وما ذنب من أصيب أو مات لمجرد أن أحدهم يعتقد أن حمل السلاح وإطلاق الرصاص هو الطريق الوحيد للفرح والابتهاج؟قبيل أن تنتهى إجازة العيد.. كان شاب ينتمى لعائلة محترمة من قرية مجاورة فى طريق عودته إلى وحدته بالجيش.. باقٍ له مدة بسيطة وينتهى من خدمته.. وقف على محطة قطار جرجا يمزح قليلًا مع صديق له.. وقبل أن يصل القطار القادم من أسوان ليقله إلى الشمال اخترقت رأسه وصدره أربع رصاصات غادرة مجنونة أردته قتيلًا فى الحال وسط ذهول المسافرين.. الجميع فى صدمة فى ذلك المركز الذى كان بلد العلم والعلماء.. الحادث أعاد جنون الثأر من جديد.. والد القتيل وشقيقه يقضيان عقوبة السجن.. لكن يبدو أنها لم تكن كافية فى نظر من قرر أن يمارس أخذ ما يراه حقًا بذراعه. الثأر الذى حمى الصعيد كثيرًا.. عندما كنا نعرف قوانين الثأر وأخلاقياته، يعود الآن فى صورة شنعاء متطرفة لا قانون لها ولا أخلاقيات.. الشابو ذلك الوافد المخيف يخترق البيوت الآمنة ليقتل أجمل ما فيها.. شباب زى الورد أهاليهم تنتظر منهم حمل الشيلة وبناء حياة أفضل مهددون بذلك الكابوس الذى ضرب الشوارع والحوارى والعطوف.. الأهالى فى حالة قلق مستمر وغضب عارم يطالبون الشرطة بالتدخل بقوة غاشمة لدك بيوت تجار الشابو.. قبل أن يتحول إلى فتنة بين العائلات.. مطاردة حملة السلاح أمر بات ضروريًا فى ظل هذه العشوائية التى يتعامل بها شباب موتور لا يدرك ما ينتظره فى آخر النفق.حال العيد لم يكن سعيدًا أبدًا فى قريتى.. لكننى أثق أن أهلنا فى الصعيد عمومًا قادرون على التوحد قريبًا خلف هدف واحد للقضاء على هذه الظواهر.. وأعتقد أن رجال العلم والدين، وما أكثرهم، لن يسكتوا طويلًا.