الطفولة: ذكريات لا تُنسى ولحظات لا تُسترجع

أ.د. إبراهيم بن عقلاء المشيطي
كبير الباحثين – مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية
في زحمة الحياة وضغوط العصر الحديث، نجد أنفسنا غارقين في دوامة العمل والالتزامات، ناسين أو متناسين حقيقة بسيطة لكنها عميقة الأثر: العمل سيبقى دائماً في انتظارنا، أما الطفولة فهي رحلة لا تُعاد أبداً. هذه الحقيقة تحمل في طياتها دروساً عظيمة حول أولويات الحياة ومعنى السعادة الحقيقية.
الطفولة ليست مجرد مرحلة عمرية نمر بها، بل هي عالم سحري مليء بالبراءة والفضول والإبداع غير المحدود. إنها الفترة التي تتشكل فيها شخصية أطفالنا الأساسية، وتُزرع فيها بذور أحلامهم وقيمهم. في هذه المرحلة الذهبية، يحتاج الأطفال إلى حضورنا أكثر من أي شيء آخر. عزيزي الأب، وعزيزتي الأم، اتركوا هواتفكم جانباً لساعة واحدة يومياً واجلسوا مع أطفالكم. استمعوا إلى حديثهم، وشاركوهم اهتماماتهم الصغيرة. تلك الساعة الواحدة قد تغير مسار طفولتهم بأكملها.
العمل، بطبيعته، لا ينتهي أبداً. فهناك دائماً مهمة إضافية لإنجازها، وهدف جديد لتحقيقه، ومشروع آخر ينتظر الانتباه. هذه الطبيعة اللانهائية للعمل تخلق وهماً خطيراً بأن التأجيل مقبول، وأن هناك دائماً وقت لاحق للأمور المهمة حقاً في الحياة. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الطفولة لها تاريخ انتهاء صلاحية. ابنك الذي يبلغ من العمر خمس سنوات اليوم، لن يكون بنفس البراءة والفضول غداً. ابنتك التي تحب اللعب بالدمى اليوم، ستكتشف اهتماماً جديداً غداً. أيها الآباء، توقفوا عن قول “غداً سأقضي وقتاً مع أطفالي”. الغد قد يكون متأخراً جداً. ابدؤوا اليوم، ابدؤوا الآن.
اللحظات التي لا تعوض. كم من أب فاته أول خطوة لطفله لأنه كان مشغولاً بمكالمة عمل؟ وكم من أم لم تسمع أول كلمة لطفلها لأنها كانت غارقة في ضغوط العمل؟ هذه اللحظات لا تُعوض ولا تتكرر. عندما يقول لك طفلك “بابا، تعال العب معي” أو “ماما، أريد أن أحكي لك شيئاً”، فهذه دعوة للدخول إلى عالمه السحري. لا ترفضوا هذه الدعوة، فقد لا تأتي مرة أخرى.
الأطفال الذين يفتقدون إلى حضور والديهم في طفولتهم، غالباً ما يحملون هذا الشعور بالنقص معهم طوال حياتهم. قد ينجحون في حياتهم المهنية، لكنهم يبقون يبحثون عن ذلك الاهتمام والحب الذي افتقدوه في طفولتهم. أما الآباء، فيكتشفون متأخرين أن أطفالهم لم يعودوا بحاجة إليهم بنفس الطريقة. الطفل الذي كان يجري إليك عند عودتك من العمل، أصبح مراهقاً منشغلاً بأصدقائه. والطفلة التي كانت تريد مشاركتك كل تفصيلة في يومها، أصبحت شابة تحتفظ بأسرارها لنفسها. لا تنتظروا حتى يكبر أطفالكم لتندموا على الوقت الضائع. ابدؤوا الآن في بناء تلك الذكريات الجميلة التي ستبقى معهم مدى الحياة.
الذكريات الجميلة مع الأطفال لا تُصنع من الهدايا الغالية أو الرحلات المكلفة، بل من اللحظات البسيطة المليئة بالحب والاهتمام. قراءة قصة قبل النوم، اللعب في الحديقة، الضحك معاً على نكتة بسيطة، أو حتى مجرد الجلوس والاستماع باهتمام لحديث الطفل. الآباء والأمهات الأعزاء ، خصصوا نصف ساعة يومياً للجلوس مع كل طفل من أطفالك بشكل منفرد. اسألوه عن يومه، عن أحلامه، عن مخاوفه. هذه النصف ساعة ستعني له أكثر من أي هدية غالية قد تشتريها له.
إلى كل أب يقرأ هذه الكلمات: ابنك لن ينتظرك إلى الأبد. صوته الصغير الذي ينادي “بابا” بفرح عند رؤيتك، سيتغير يوماً ما. يداه الصغيرتان اللتان تمسكان بيدك بقوة، ستكبران وتصبحان مشغولتين بأمور أخرى. إلى كل أم تضحي بكل شيء من أجل توفير الأفضل لأطفالها: أطفالك لا يحتاجون إلى الأفضل من كل شيء، بل يحتاجون إلى الأفضل منك. يحتاجون إلى وقتك، إلى اهتمامك، إلى حضورك الكامل في حياتهم.
ضعوا هواتفكم جانباً عندما تعودون إلى البيت. أعطوا أطفالكم انتباهكم الكامل لولو لفترة قصيرة. العبوا معهم، اضحكوا معهم، تحدثوا معهم. هذه اللحظات البسيطة هي التي ستبقى في ذاكرتهم مدى الحياة.
الوقت الذي تقضونه مع أطفالكم ليس “وقتاً ضائعاً” من العمل، بل هو أهم استثمار في حياتكم. الطفل الذي يحصل على اهتمام ووقت والديه ينمو ليصبح شخصاً أكثر ثقة بالنفس، وأكثر قدرة على بناء علاقات صحية، وأكثر إبداعاً في حل المشكلات. أطفالكم لن يتذكروا كم من المال جنيتم لهم، بل سيتذكرون كم من الوقت أمضيتم معهم. لن يتذكروا الساعات التي قضيتموها في العمل، بل سيتذكرون اللحظات التي قضيتموها في اللعب معهم.
إذا كان أطفالكم لا يزالون صغاراً، فأنتم محظوظون. لا تزال لديكم الفرصة لتكونوا جزءاً من عالمهم السحري. لا تضيعوا هذه الفرصة الذهبية. ابدؤوا اليوم. عودوا إلى البيت مبكراً، ولو يوماً واحداً في الأسبوع. خذوا إجازة من العمل واقضوا يوماً كاملاً مع أطفالكم. اتركوا كل شيء واذهبوا معهم إلى الأماكن التي يحبونها . هذا اليوم الواحد قد يكون أجمل ذكرى في طفولتهم.
الحقيقة البسيطة هي أن العمل وسيلة للعيش، وليس هدف الحياة. بينما الطفولة هي كنز ثمين يجب أن نحافظ عليه ونستثمر فيه. لا يعني هذا إهمال العمل أو التقصير في المسؤوليات المهنية، بل يعني إيجاد التوازن الصحيح الذي يضع الأولوية للأمور الأهم والأكثر قيمة. أيها الآباء والأمهات، أطفالكم في انتظاركم. قلوبهم الصغيرة تشتاق إليكم. عيونهم تبحث عنكم. أحلامهم تحتاج إلى حضوركم لتتحقق. لا تجعلوهم ينتظرون أكثر من اللازم.
وفي الختام، عندما نصل إلى نهاية رحلتنا في هذه الحياة، لن نتذكر الساعات الإضافية التي قضيناها في العمل، بل سنتذكر اللحظات الجميلة التي قضيناها مع أحبائنا، وخاصة مع أطفالنا في سنوات طفولتهم الذهبية. فالعمل سيبقى، ولكن الطفولة لا تعود أبداً.