أقلام وذكريات وأحاسيس.. ديوان «ليس للحب غربان» يتجاوز طقوس التفسير

يتمثل الغراب في الذاكرة الجمعية على أبعاد عدة بعد أن حجبت صورته كمعلم لتتسلمه منظومة الثقافة الشعبية وتقذف في لونه كل مآسي البشر؛ لذا يلتحف هذا الطائر الموشح بالسواد أثواب القبح والازدراء، الموت والحظ السيئ، الإنذار والعقاب، الهاوية والاندفاع إليها، إلى آخر ثنائيات السياج الثقافي الذي تقوى عبر العصور وجللته التزكية المجتمعية.
وتظل في الغالب عملية استدعائه شعريًا وروائيًا داعمة لهذا المد المتوراث، والمفارقة أن يكون الغراب كمجني عليه في طقوس المذبحة الوجودية داخلًا كعلامة لفعل ثقافي مرفوض دون أن يكون فاعلًا ولو بالظن.
قداسة وتغييب واحتفاء
في المقابل ربما نتغاضى قليلا عن هذه المرافعة الغرابية لصالح قداسة إنسانية يراد لها التغييب دائمًا وأبدًا وهي «الحب» أُكسير الحياة التي نتربص به في فعل جنوني عبر التجاهل والقتل والخيانة والجهل والكذب والنفاق، كما ندفعه للمرور صوب بوابات التأويل وتفريغه باستمرار من طابعه الوجداني وتحميله على جسر الخطايا وهو ما يبنى عليه ديوان «ليس للحب غربان» للشاعرة هناء المريض قواعده النفسية المشبعة بالدلالات التي تحاكي تمردًا على ناموس ذاك الفعل.
– للاطلاع على العدد «499» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا
وفي المقابل تبدو جمل القصائد للوهلة الأولى متبرمة للذوات المسيطرة المستكينة لسلطة الاستحواذ لكنها تعاني من حيث لا تقصد نسقية خطاب ثقافي يعتمد فقط على ردود الأفعال ولا يبادر في توصيف نسيجه الروحي ليرى ردود فعل الآخر، مع أننا نلتمس في سفر التماس مع الآخر عند بعض النصوص الاحتفاء بفعل الكتابة كفارق بين الإدراك والجهل، وكذا بين الضوء والظلام، ففي نص «حبة بندق» تواجه الذات الشاعرة سياج المراقبة المتعددة الأوجه بالكتابة (أكتب/ لأنك لن تتمكن أن تقاطعني)، لأن الكتابة ممارسة جوانية لا حسية فهي تتناسل من رحم الحدس والبصيرة إذا (سيقرأني سواك/ ويسيء فهمي سواك/ فأخلق لك بذلك في رحم الأعذار توائم).
الكتابة وأسوار الاستحواذ
سيستمر رذاذ الحبر في استحضار أثر الكتابة واشتباكها مع أسوار الاستحواذ، بل وتوصيفه للأسئلة الكامنة في عقل الآخر ومنها ما يتعلق بمعنى الحب، بحثًا عن وعي مسبق بهذا الإحساس المرحل وتفرس شيء من ملامحه على شواطئ الضفة الأخرى وإن لم تتضح سيكون البديل حوارًا داخليًا يتناسل في كل مرة مع الوجع والغياب والتهميش لكنه في النهاية ينصف الذات ويعزز فرضية وجودها في عالم المتناقضات (أكتب/ لأنك كعادة أشياء اليتيم الجميلة/ تأتي بعد الفوات/ أكون حينها قد وضعتك على جناح الغبار … أكتب/ لأن الحياة داخل النص منصفة/ الكل على سطر/ يبكي بدم أزرق/ يمكنني الصراخ أيضا/ بصوت ليس بعورة).
هكذا تصبح الكتابة مركز النهوض والتفكر فهي الخيار الوحيد بين الوقوف والانهيار، على الرغم من أن مسارها ملتهب وصارم وسابح بين الجنون والجريمة.
توصي الذات الشاعرة نفسها ومرادفها الروحي بوميض كلمات شحذتها التجربة حيث كانت الحروف قبلات الزمن الممد على جسدها: (لا تسكني مدنا عمرتها الأكاذيب)، هكذا تتجه الوصايا إلى حيث منابع الخلاص من ربقة الخطايا فالكذب إحداها ثم (ارفعي شراعك .. شمالا جهة القلب، وابحثي عن نجاة) نحن أمام نص حاكم يقول (ليس للحب غربان) حتى الكتابة تصبح في حضرته غير ذات جدوى ما لم تستحضر المواجهة، إذن لن يكون للاستذكار معنى في محفل الجنائز، إنه موعد مع حالة من حالات التطهر والانزواء بعيدا عن لوثة الخديعة وهو قربان يقتضيه الموقف وتفرضه المكاشفة وعلى الآخر فهمه حتى (تصالحك في مكان آخر ..في زمن هو أيضا آخر).
استعادة لمعرفة التمايز
بكل هذه التجارب تنحت القصيدة وجهها لاستعادة فقد سالف ولمعرفة التمايز مع وجوه أخرى تمارس لغة الصمت بعد أن تمرنت على الذوبان في زحام الزيف، لذا كان نص «زنبقة» أحد شواهد المواجهات المعلنة بين الحقيقة ونقيضها، بين الصراحة والكذب للحصول على ترياق النجاة وإزاحة عبث الماضي: (وأناديك تعال/ فلنبع هذا الضياع/ ونشتري يا سيدي شراعا…ونبحر).
يتوج هذا الدفق نص «سنبلة» حيث لا يزال نداء حالة الترياق ماضيًا في تشخيص مفردات اللقاء وصهر كل تشكلاته النفسية وتندغم جميع حالات الوجد في أضمومة اللقاء السؤال: (عبثا أجد بدونك إجابة لسؤال الحزن لماذا؟) تحاول الذات الشاعرة إيجاد إجابة شارحة لكيمياء اللقاء لا باعتماد تقاطيع جمل وتكثيفها ولكن باستحضار صيغة حوارية بين الأمل ونقيضه أو بين دلالات البناء النفسي ومرادفاته الهادمة، حيث نرصد اعترافات المصائب والسعادة والعجز والقسوة: (قالت الفرصة: لا تجتهد أنا اجتهاد ماكر/ قالت المعركة: الانتصار فرح مغرور/ قالت السعادة: أنا أفوق الجمال مطمعا/ قالت المصائب: نحن نأتي دون أن ينادينا أحد).
– للاطلاع على العدد «499» من جريدة «الوسط».. اضغط هنا
ترسم هذه الإيقاعات الحوارية مسارًا من المفاهيم القديمة الجديدة داخل كوامن الذات، فهي تحدد طبيعة قناعاتنا ومفاهيمنا نحوها وصداماتها ومن ثم نقلها إلى منصة المكاشفة فقط للحصول على وميض ما ينقلنا إلى صيغ للحب خارج دلالات الغربان.
الشاعر هناء المريض. (أرشيفية: الإنترنت) الشاعر هناء المريض. (أرشيفية: الإنترنت)