عواصف سيدي المهدي

عواصف سيدي المهدي

بالرغم من المكانة الرفيعة التي احتلها الأولياء الصالحون في تاريخ ليبيا، إلا أن أحدا منهم لم يصل إلى السلطة، إلا مهاجر جزائري واحد لا يصنف بأنه ولي «مرابط» وإنما يصنف كإمام، هو محمد بن علي السنوسي من وضع الأساس الصحيح الذي استكمله ابنه المهدي من بعده، ليحصد النتائج حفيده إدريس السنوسي، ولكن المهدي تحديدا تحول إلى ولي صالح في نظر أنصاره حيا وميتا، ففي حياته وبعد نجاح ثورة محمد أحمد المهدي في السودان باعتباره المهدي المنتظر، سئل المهدي السنوسي هل أنت المهدي المنتظر؟ فلم ينف ولم يؤكد، مما عمق الإيمان بين أنصاره بأنه فعلا المهدي المنتظر، وعندما زرت الكفرة عام 1998 لكتابة تحقيق صحفي عن مشروع السرير والكفرة الزراعي لصالح مجلة لا، قابلت المهندسين الذين يديرون ويشرفون على المشروعين ومعظمهم من قبيلة الزوية، وكانوا جميعا يؤمنون بولاية المهدي السنوسي، وحدثني أحدهم بأن عمه ورفيقا له ضاعا في الصحراء بعد أن نفد منهما الوقود والماء، وأخذا في ظلام الليل يتضرعان ويندهان على المهدي، وبعد أن غلبهما النعاس وجدا في الصباح سيارتهما تقف قبالة ضريح المهدي السنوسي في زاوية التاج بالكفرة. المهندس الذي حكى لي القصة خريج كلية الزراعة، ويحتل منصبا قياديا في مشروع الكفرة الزراعي الذي يمتد على مساحة 10 آلاف هكتار، وعندما يتحدث عن الزراعة يتحدث بمنطق علمي تعلمه في الجامعة، ولكن عقله يعود عقلا قدريا سلفيا يؤمن بالمعجزات عندما يتعلق الأمر بالعقائد، وما عزز الاعتقاد بولاية المهدي السنوسي واقعة عجاج سيدي المهدي، هكذا يطلق عليها سكان برقة، منذ أن أمر الملك إدريس في ديسمبر 1957 بنقل رفات والده ليدفن في مدينة بنغازي، وكان المهدي قد توفي في زاوية قرو غرب السودان، أثناء مواجهة القوات السنوسية للقوات الفرنسية التي زحفت على شمال تشاد، فانتقل من الكفرة إلى قرو ليكون قريبا من قواته، ثم نقلت رفاته لتدفن في زاوية التاج بالكفرة بعد أن وصل عدد زواياه إلى 146 زاوية في ليبيا ومصر وشمال تشاد وغرب السودان والسعودية، وهو ما يجعله قائدا مميزا في تأسيس الدول وفق المفهوم الخلدوني.

تحرك الموكب من الكفرة باتجاه أجدابيا حيث أصر سكانها أن يدفن المهدي في أرضهم، مما عطل الموكب عدة ساعات، وعندما توجه إلى بنغازي واجهته عاصفة رملية قوية حجبت الرؤية، وعندما وصل الموكب إلى قمينس أصبح من المستحيل التقدم أكثر، فأمر الملك بإعادة رفات والده لتدفن مرة أخرى في الكفرة، واعتبر الناس أن هذا العجاج كانت رسالة من المهدي برفض دفنه في بنغازي، وفي عهد القذافي وبعد أن أمر بنبش قبر الإمام محمد بن علي السنوسي في الجغبوب، ورمي رفاته في الصحراء، أمر أيضا بنبش قبر ابنه المهدي في الكفرة، ولكن أبناء قبيلة الزوية وقفوا أمام الجرافة المكلفة بنبش القبر، وخشى القذافي أن تتطور الأحداث وتتحول إلى انتفاضة فسحب جرافته. في ديسمبر 2017 نبشت كتيبة تابعة لقوات خليفة حفتر تتكون من سلفيين من التيار المدخلي قبر المهدي السنوسي في الكفرة. الكتيبة المسلحة التي تدعى سبل السلام نقلت الرفات إلى مكان مجهول، ونهبت وعبثت بمحتويات الضريح الذي شيد قبل 115 سنة.

لولا الاستعمار الفرنسي والإيطالي والبريطاني، لنجح المهدي وخلفاؤه في بناء دولة مترامية الأطراف في الصحراء الكبرى، مثلما فعل عبد العزيز آل سعود في نجد والحجاز، فقد تحاشى المهدي السنوسي التورط في تأييد ثورة أحمد عرابي في مصر عندما طلب منه ذلك، لأنه كان يدرك أنه لا يزال أضعف من تحدي الإمبراطورية البريطانية، ولأن ثورة عرابي ثورة مدن وقد تحاشى ووالده التورط في المدن حتى مدن برقة، وهذا درس لكل فصائل المقاومة في عصرنا الحالي، أن تتحاشى معركة غير مستعدة لها وأن تبني نفسها بأقل قدر من الصخب، وبأكبر قدر من الفعالية وخاصة في التخصصات الدقيقة من علوم وتكنولوجيا العصر الحالي.

لم ينجح الأولياء الصالحون في بناء دولة بسبب ضعف العصبيات في مناطقهم، لأنها تخضع لنمط إنتاج تحتاج فيه إلى السوق في المدن، والعصبية لا تنشأ في المدن وإنما في نمط الإنتاج البدوي في قلب الصحراء، ولهذا لم يترك هؤلاء الأولياء إلا زوايا وأضرحة متناثرة في كل البلاد، بينما اعتمد إدريس السنوسي على تراث جده ووالده ليحكم ليبيا، بعد أن راهن على انتصار القوات البريطانية في الحرب العالمية الثانية. الحاكم الثاني لليبيا جاء أيضا من الصحراء ومن نفس الثقافة التي أنتجها نمط الإنتاج البدوي، كل ما في الأمر أنه استبدل العصبية القبلية بعصبية عسكرية ترفع شعارات القومية العربية، وانتهت إلى عصبية قبلية وحكم عائلي وراثي بموافقة الليبيين، فلو أن القذافي تنازل عن السلطة لابنه سيف الإسلام لانتهت ثورة فبراير في مهدها. مشروع السنوسي كان مشروعا ذكيا ينطلق من تراث المنطقة، ومشروعا طويل النفس يعتمد على التدرج وليس حرق المراحل، كما يسعى إلى مراكمة الخبرة والتجارب والثروة والقوة، بينما كان مشروع القذافي ضربة حظ ففي ليلة واحدة وجد نفسه حاكما لليبيا، تحت يديه مليارات الدولارات ولم يترك شيئا يستحق الذكر، حتى مشروع النهر الصناعي وهو أكبر إنجازاته، كانت رؤية الملك إدريس أكثر استراتيجية من رؤية القذافي، وهي الإبقاء على مياه النهر الصناعي في مكانها، وتشجيع الشباب على الانتقال من الشمال إلى الجنوب، ليزرعوا ملايين الهكتارات ويستثمروا في الصناعات الغذائية، بينما لا تنقل إلى الشمال إلا المياه المعلبة للشرب، والاعتماد على محطات تحلية مياه البحر لبقية الأنشطة. كان هذا المشروع سيغير ليبيا بالكامل ديمغرافيا ويغير نمط إنتاجها الريعي ويجعلها أكبر دولة في المنطقة لتصدير الغذاء، وهذا يحتاج إلى بناء شبكة نقل حديثة من السكك الحديدية، وتأسيس مراكز بحوث لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية وتطويرها لتصدير الكهرباء، وأن تتحول جميع الموانئ والمطارات الليبية إلى تجارة الترانزيت وهي خطة لا تزال قابلة للتنفيذ، وإن كانت التكلفة ستكون أعلى مما لو نفذت في السبعينات. هذه أفضل طريقة للخروج من إرث الأولياء ومن عجاج سيدي المهدي ومن حكومات اللصوص المتعاقبة.