القوة بالوكالة في الشرق الأوسط (1)

القوة بالوكالة في الشرق الأوسط (1)

 

 

في كتابه “السياسة بين الأمم”، يستشهد هانز مورغنثاو، أحد الآباء المؤسسين للنظرية السياسية الواقعية، بحرب القرم (1853-1856)، التي خاضت فيها بريطانيا وفرنسا حربًا ضد روسيا دفاعًا عن الإمبراطورية العثمانية، ليحذر رجال الدولة قائلا ً: “لا تسمحوا أبدًا لحليفكم الصغير أن يجركم إلى حرب كبرى”.

 

بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، ورد كيان الاحتلال الوحشي والمدمر على قطاع غزة، تلوح في الأفق بوادر حرب وصراعات  جديدة في الشرق الأوسط، هذه المرة بين الولايات المتحدة وإيران.

 

في الأسابيع الأخيرة، تصاعدت حدة الخطاب العسكري في واشنطن، ورغم أن الاتصالات الدبلوماسية الخلفية بين إيران والولايات المتحدة في عُمان قد بثت الأمل، إلا أن نجاح هذه الجهود لا يزال غير مؤكد.

 

 ظاهريًا، تنبع التهديدات الأمريكية بالحرب من هجمات على مصالحها، لكن في الحقيقة، تعمل الولايات المتحدة بشكل متزايد كقوة بالوكالة لتحقيق طموحات حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة في المنطقة. 

 

ولا يُشير هذا التحول إلى تراجع الهيمنة الأمريكية في المنطقة فحسب، بل يُشكل أيضًا مخاطر جسيمة على الأمن العالمي ومستقبل النظام الدولي.

 

(أولا ً): من الهيمنة العالمية إلى القوة بالوكالة

 

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتكزت استراتيجية أمريكا في الشرق الأوسط على السيطرة على موارد الطاقة، وقمع الحركات القومية واليسارية، ودعم الأنظمة المتحالفة. 

 

ومع ذلك، فمنذ الحرب الكارثية في العراق عام 2003، وحتى الفشل الاستراتيجي في أفغانستان – وتسليم كل من العراق وسوريا في نهاية المطاف إلى المتطرفين الإسلاميين الذين زعمت الولايات المتحدة محاربتهم لأكثر من عقدين – أصبحت علامات التراجع التدريجي للهيمنة الأمريكية في المنطقة واضحة بشكل متزايد. 

 

في غضون ذلك، ملأت قوى منافسة مثل الصين وروسيا الفراغ – الصين من خلال اختراقات دبلوماسية مثل الاتفاق الإيراني السعودي، وروسيا من خلال التمركز العسكري في سوريا.

 

 كما تسعى جهات فاعلة أخرى مثل تركيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي جاهدةً لإعادة تشكيل المنطقة، مع ظهور لاعبين جدد باستمرار في الفراغ الجيوسياسي الحالي.

 

في هذه البيئة الفوضوية، عادت النخب الأمريكية إلى حلها الافتراضي  “العسكرة”.. لكن الجديد هو أن السياسة الأمريكية في المنطقة لم تعد مدفوعة بمصالح استراتيجية مستقلة، بل أصبحت أكثر انسجامًا مع الأجندات الأيديولوجية والأمنية لإسرائيل. فمن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران إلى دعم بايدن غير المشروط لإسرائيل في حرب غزة، أصبحت السياسة الخارجية الأمريكية خاضعة للمصالح الإسرائيلية، مُغذّية بذلك آلة الحرب الإسرائيلية بدلًا من السعي لتحقيق الأهداف الأمريكية. إن التهديدات المتكررة بالحرب مع إيران، وخاصة منذ تولي ترامب منصبه، ليست سوى الفصل الأخير في هذا المسار الخطير.

 

 

(ثانيا ً) طهران: عدو فعال للحفاظ على الوضع الراهن

 

لسنوات، صوّرت إسرائيل إيران على أنها “تهديد نووي وإرهابي”، مُحفّزة سكانها المحليين ومُؤمّنة دعمًا غير مشروط من واشنطن، في دوائر السياسة الأمريكية، أصبحت إيران كبش فداء مُناسب، مُبرّرةً العقوبات والتخريب والهجمات الإلكترونية، وحتى الاستعدادات لحرب شاملة.

 

لكن هذه الرواية تُبسط بشكل خطير أن الحرب مع إيران ليست نابعة من ضرورة استراتيجية، بل من ثلاث قوى دافعة: جنون العظمة الإسرائيلي، ونفوذ جماعات الضغط الأمريكية المتشددة، وجشع المجمع الصناعي العسكري الذي لا يشبع.

 

 

(ثالثاً) الحرب كأداة لاستعادة الهيمنة

 

يُظهر التاريخ أن مثل هذه الحروب مكلفة وغير مجدية، فهي لا تُسفر عن رابحين حقيقيين، بل عن خسارة شاملة… الولايات المتحدة، التي تُطاردها متلازمة فيتنام في القرن العشرين، وقعت مرارًا وتكرارًا في فخاخ مماثلة في القرن الحادي والعشرين.

 

حتى خلال رئاسة بايدن، لم يتوسع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة فحسب، بل بلغت مبيعات الأسلحة لإسرائيل ذروتها أيضًا، في الوقت نفسه، ازداد خطاب الكونغرس بشأن إيران عدوانيةً، حيث دعا أعضاء مجلس الشيوخ مثل توم كوتون علنًا إلى توجيه ضربات عسكرية مباشرة.

 

و تصاعد هذا التوجه خلال عهد ترامب، وخاصةً في ولايته الثانية، عندما بدأت إدارته ليس فقط في تكرار نمط الحروب التي لا نهاية لها، بل فقدت أيضًا القدرة على قول “لا” للمطالب الإسرائيلية.

 

 

في هذه الأثناء، تبنى الحزبان السياسيان الأمريكيان الرئيسيان، المتأثران بشدة بجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل مثل لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، حجج نتنياهو جملةً وتفصيلاً، متصرفين كما لو أن إيران هي التي تحتجز مصالحهما رهينة، بينما في الواقع، إسرائيل هي التي ربطت أهدافها بالسياسة الأمريكية، مشوهةً الصورة تماماً للبيت الأبيض.

 

وللحديث بقية ……