السلطة والثقافة من يخدم من؟

يجب ألا ننسى أن نقوش المصريين القدماء على جدران المعابد والآثار الباقية هي إبداعٌ ساحرٌ بامتياز. نتأملها الآن، فنتساءل كيف نقشت أصابع البشر هذه الرسومات العجيبة، لرجال ونساء يعملون فى جد، أو يصطفون فى جمال وتحضُّر، يرتدون ملابس منمقةً ويتحلَّين بأساور وزينات مبهرة، ويحملون أدوات صيد أو أسلحة حرب، أو معاول حفر أو غيرها. إننا لا نعرف أصحاب هذه النقوش من النحاتين والفنانين الذين قضوا جل أوقاتهم فى تخليد ذكرى ملك أو قائد، لكن الفكرة المستخلصة هنا هي أن المبدع كان دومًا مسخرًا لخدمة السلطة.
هكذا رأى كل حاكم قوي ذى نفوذ مطلق وسلطة عليا، أهل الإبداع والثقافة، فهم مجرد وسائل لتخليد مجده. فالكاتب لدى هؤلاء مجرد أداة لخدمة السلطة، ومهمته هي النشر والترويج والدفاع عن كل ما تفعله وتقوله. هذا الأمر يدركه كل مثقف ومبدع تدفعه الظروف للاقتراب من السلطة، لكن البعض يتصورــ بحسن نيةـــ إمكانية تطويع السلطة وترويضها لتحقيق مكاسب إنسانية من خلال هذا القرب.
يحكى أن الروائي الكولومبي غابرييل غرسيا ماركيز ارتبط بصداقة قوية مع الديكتاتور الكوبي فيدل كاسترو، وكانا يلتقيان ويتناقشان فى الأدب والفن والسياسة. وهذا ما دفع بعض محبى ماركيز إلى انتقاده ومخاصمته لقبوله صداقة حاكم ديكتاتور. وفى لقاء غريب جرى فى المكسيك نهاية السبعينيات التقى ماركيز مع صديقه الروائي بارغاس يوسا، وفوجئ الحاضرون بيوسا يصفع ماركيز على وجهه، ويغادر دون كلمة، وهو ما فسره البعض بغضب يوسا من ماركيز لقبوله صداقة كاسترو. وحاول ماركيز الرد بشكل عملي، فمارس ضغوطًا على الزعيم الكوبي، انتهت بإطلاق سراح بعض السجناء السياسيين مثل باديلا وفوينتس.
فى حلقات الأستاذ حسنين هيكل بالجزيرة، روي كيف ساعدته علاقته بالرئيس جمال عبدالناصر فى إنقاذ كثير من المبدعين والكتاب من السجن. بدا المثال واضحًا فى قصة جمال العطيفى، الذى كتب مقالًا فى الأهرام عن «دولة القانون» انتقد فيه نشر القرارات فى الوقائع الرسمية بعد صدورها بفترة طويلة، ولم يكد يخرج من مبنى الأهرام حتى قبض عليه قرب مبنى القضاء العالى. اتصل هيكل بوزير الداخلية شعراوى جمعه، فأخبره أن الآمر باعتقال العطيفى هو الرئيس نفسه، وأن عليه التحدث إليه، وبالفعل التقى هيكل الرئيس بعد أيام فى باخرة على النيل، وطلب الانفراد بالرئيس وتحدث إليه فى أمر العطيفى وأقنعه بالإفراج عنه.
وكان موسى صبرى يعتبر اقترابه من الرئيس أنور السادات مفيدًا للناس إذ يمكن أن يكون سببًا فى إنقاذ مظلوم أو تحقيق منفعة عامة، وهذا ما كان يرد به على كثير من الحاسدين الذين انتقدوا مكانته لدى الرئيس الراحل. لكن المفارقة الغريبة أنه نفسه هو الذى قال لمفيد فوزى وهو على فراش الموت «لقد خدعتنا السلطة يا صديقي».
وروى يوسف إدريس للدبلوماسي المخضرم مصطفى الفقى أنه تلقى يومًا دعوةً لزيارة بغداد فى بداية الثمانينات من الديكتاتور العراقي صدام حسين، ونقلته سيارةٌ من المطار لساحة خارج العاصمة وجد فيها صدام حسين يقوم بإعدام بعض المتآمرين بنفسه رميًا بالرصاص، والتقاه وهو يضحك ويخبره بأن الموت هو مصير كل من يخون أو يتآمر عليه، ليفهم رسالته بأن السلطة أعلى وأقوى من أي ثقافة أو فن.
ثمة دراسةٌ مهمةٌ للمفكر الفلسطيني العظيم إدوارد سعيد بعنوان «المثقف والسلطة» تستقرئ العلاقة الشائكة، وتخلص إلى صعوبة الجزم بصحة نمط من أنماط علاقات المثقف بالسلطة. ففى بعض الأحيان يحقق المثقف هدفه بكبح جماح السلطة وضبط تغولها على المحكومين. وفى أحيان أخرى تحقق السلطة هدفها فى استعباد المثقفين وتشغيلهم هتيفةً وممجدين لها. وفى ظروف أخرى يتعادى الطرفان ويمارس كل طرف حدته تجاه الآخر، فيخسر الجميع. تخسر السلطة وتخسر الثقافة ويخسر الوطن.
والله أعلم.
[email protected]