التخلي عن الحاجة.. وواقعنا الحالي

التخلي عن الحاجة.. وواقعنا الحالي

بداية أن ثمة مداخل للشيطان يدخل بها على الإنسان، فيزين له سوء عمله فيراه حسنا، فيصور له القبيح جميل، والحق باطل.

والإنسان بطبعه دوما ما تقوده نفسه الإمارة بالسوء، تقوده إلى التهلكة فتقحمه في مشاريع لا طاقة له بها.يقول تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)فيدخل الشيطان للإنسان من ناحية العوز والحاجة والفقر، فيجعله يقدم على الإرتشاء أو ما شابه هذه الأشياء التي تدر مالا حراما كثيرا.فيوسوس له أن ما يفعله ليس حراما ولا عيبا، والجميع يفعل ذلك وأنه ليس قديسا، أو يوسوس له قائلا افعلها هذه المرة وتب بعد ذلك.المهم يدفعه دفعا إلى فعل المناكير، وارتكاب الموبقات المهلكات التي تقوده إلى الهلاكين، هلاك الدنيا، ثم الهلاك الأعظم هلاك الآخرة.ومن هنا يأتي الاستغناء، فمن استغنى اغناه الله ومن استعف عفه الله تعالى ولا يتأتي ذلك إلا من خلال تهذيب النفس وإطفاء نيرانها، ولا يتم هذا الإطفاء إلا بواسطة الاستغناء، فمن ترك ملك ، ماذا يترك وعن أي شيء يتخلى؟!يترك مباهج الدنيا وزينتها ولا يمد عينيه إلى ما متع الله به غيره، ويرضى بما قسمه الله تعالى له ويستغني عن المال الحرام مهذبا نفسه واضعا سنة النبي صل الله عليه وسلم نصب عينيه (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به).وليجعل صحابة النبي النجوم الزاهرة مثله الأعلى وقدوته، ألم يقل سيدنا علي كرم الله وجهه مخاطبا الدنيا، قائلا، يا دنيا غري غيري، يا دنيا طلقتك ثلاثا، استغنى عن الدنيا بما فيها وتركها بكل ما فيها على ما فيها.وصدق أحد المتصوفة حينما قال عن الزهد (التجافي عن دار الغرور والإنابة رب غفور).يقول تعالى (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فاصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا).وهنا يأتي دور التعقل في الأمر برمته، فإذا ما عرض الاستغناء على العقل، فالعقل هو الضابط والرقيب وضابط إيقاع النفس ومهذبها، فإذا ما تعقل الإنسان المسألة برمتها وخير بين مال كثير لكن مصدره مشبوه، وبين مال حلال قليل لكنه معلوم المصدر ، فماذا سيختار المتعقل.بالضرورة سيختار الحلال حتى إذا راودته نفسه وأخذته بعيدا عن الدين، فإن عقله سيقوده إلى الرزق المباح معلوم المصدر، لماذا، لأن عقله سيقول له، نفترض جدلا إنك ضبطت متلبسا برشوة أو بتجارة ممنوعة كالمخدرات، أو ضبطت مثلا وأنت تحتكر سلعا تموينية، فما هو حالك وقتئذ، وما شكلك ومنظرك أمام الناس، وأمام أولادك، وهل ستحتمل أن تلقى في غياهب السجون سنوات طوال.إذن منطق العقل هنا يحتم علينا الاستغناء عن كل ما يثير شبهة وكل ما يدخلنا في باب القيل والقيل.كأولئك الذين يبيعون الكاتب الجامعي للطالب على هيئة ملازم، يبيعونه مرات عديدة، مرة ملازم المقرر، ومرة ثانية تلخيص للمقرر، ومرة ثالثة ملزمة مراجعة ليلة الامتحان. على الرغم من أن لهم كتبا تفاعلية على منصة تعليمية محترمة تعطي أرباحا لا بأس بها.لكن هى النفس الإمارة بالسوء التي تدفع هؤلاء وأمثالهم إلى مص دماء الطلاب الغلابة.فالمتعقل يعرض القضية على عقله قبل أن يقحم نفسه ويقع في شراك وحبائل الشيطان، ويتوقف ولا يقدم على مثل هذه الأفاعيل التي تقوده إلى الهاوية ويستغني.إن الاستغناء فضيلة، نعم فضيلة ولا أكون مبالغا في ذلك طالما أن الاستغناء هذا سيحفظ لك كرامته وكرامة أسرتك ويحفظ لك هيبتك ومكانتك بين الناس فلا مندوحة منه، بمعنى أن من يتخلى عن منصبه ويستغني عنه لأنه لا يجيد فن، نعم فن التطبيل والأكل على كل الموائد ، ولم يربه أبويه على مسح الكراسي والمداهنة والشماشرجية وحمل الحقائب.فلا مندوحة من أن يتخلى عن منصبه حتى لو كان سيجعله من الوجاهة والجاه والسلطان بمكان، أو حتى سيدر عليه راتبا كبيرا، لكن إذا ما تعقل المتعقل، يظل في منصبه ذليلا يقوده مديره مربوطا بسلسلة يحركه كما يحرك قطعة شطرنج أو دمية.أم يترك، ومن ترك أمرا لله، نعم لله، لأن الله كرمك أيها الإنسان ولم يأمرك أن تحني رأسك إلا إليه، فتترك لله وحق على الله أن يبدلك الأفضل والأحسن.أو كالذي يستغني عن خطيبته لأنها تعالت هي وأهلها عليه وعلى والديه، فقام مستغنيا وفسخ خطوبته حسبة لله وإكراما لوالديه معززا إياهما فحقيق على الله تعالى أن يبدله زوجا خيرا منها تصونه وتصون والديه وترد لهما الجميل أن أعطاها شابا صالحا يحفظها ويحسن معاملتها.إن واقعنا الذي نحياه كثرت فيه الفتن فباتت كقطع الليل المظلم، اختلط فيه الحابل بالنابل، سيطرت فيه المادة بكل صورها فاخترمت النفوس ولعبت عليها واصطادتها وأوقعتها في شراكها الخداعة.فأصبح الإنسان كريشة فى مهبها تتقاذفه الأهواء والميول والشهوات.فالمتعقل يفلسف حياته على الاستغناء ويقنع نفسه أن الحياة ببهرجها ومفاتنها زائلة غير دائم لا تدوم لا أحدفلا منصب باق، ولا جمال يدوم، ولا صحة تستمر مدى الحياة، ولا جاه ولا سلطان سيبقىكله إلى زوال، ومن ثم وجب على كل عاقل متعقل أن يستغني، لا أقول يستغني بالكلية.فنحن لسنا دعاة تواكلية ولا ظلامية ولا انهزامية وإنما دعاة عمل وجد وكفاح ومثابرة، ولكن دونما تكلف ومغالاة وانجراف في تيار مادية مسرفة تجعلنا تروس في آلات، وتنسحق هويتنا وينسحق فكرنا وتذوب مبادئنا وتنصهر في هذه المادية فتغرقنا الحياة في دواماتها المتلاحقة.ومن ثم وجب الاستغناء والترفع عن كل ما يعكر صفوة أدميتنا وإنسانيتنا ولنطلب الأمور بعزة أنفس.وأختتم مقالتي بقوله تعالى (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما). أستاذ الفلسفة بآداب حلوان