د. فتحي حسين يكتب: الاحتفال بالذكرى 75 لأسطورة الصوت السماوي.. الشيخ محمد رفعت

مرت علينا ذكرى وفاة قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت ،في التاسع من مايو الحالي مرور الكرام دون أن نعطيها حقها في الاحتفال وهي ذكرى رحيل الصوت الذي حمل القرآن من الأرض إلى السماء، وردده العالم بخشوع لم يكن يميز بين مسلم ومسيحي أو يهودي. الذكرى الخامسة والسبعون لرحيل الشيخ محمد رفعت، ذهبت كأنها لم تكن.. إلا من لمسة وفاء خجولة هنا أو هناك، وكأن الوطن قد نسي قيثارته، أو تعمد أن ينسى.
كنت أنتظر أن تقيم دار الأوبرا المصرية، أو وزارة الثقافة، أو حتى الهيئة الوطنية للإعلام، احتفالية تليق برجل لم يكن مجرد قارئ قرآن.. بل كان وطنًا في صوت، وثورة في حنجرة، وضميرًا حيًا ناطقًا من زمن الاستعمار إلى زمن الاستقلال. رجل ولد ومات في زمنين من الألم، لكنه لم يتخلَّ لحظة عن أن يكون صوت النور وسط عتمات التاريخ. هل يعقل أن تمر هذه الذكرى دون أن نضع صورة الشيخ على واجهات مبانينا الثقافية، أو أن تملأ سيرته الشاشات والميكروفونات، أو أن يُعاد بث آذانه الشهير الذي صار بمثابة نشيد وطني آخر في ذاكرة المصريين؟!ومن درب الأغوات في حي المغربلين، خرج الصوت الذي صار علامة رمضان.. بل علامة مصر في زمن لم تكن فيه التكنولوجيا قد عرفت طريقها إلى وجدان الناس. افتتح الإذاعة المصرية بتلاوة سورة الفتح، وكأنه كان يعلن فتحًا جديدًا ليس فقط في عالم الإذاعة، بل في إدراكنا لجمال النص الإلهي حين يُقرأ بالصدق، لا بالزينة.هل نسيتم أن أول من سجل له الأذان كان هو؟ وأن مقام السيكا الذي لم يكن مألوفًا في الأذان من قبله، صار اليوم علامة صوتية تخصه وحده؟ هل نسيتم أن محمد رفعت كان يخشى أن يُبث صوته عبر “اختراع جديد” خشية أن يُساء لمقام كلام الله، واستشار شيخ الأزهر قبل أن يوافق؟! أي زمن ذاك الذي كنا نحسب فيه للخشية موضعًا، وللتقوى كرامة؟هذا الرجل لم يكن عابرًا في الزمن المصري، بل كان جزءًا من ثورته الوطنية والثقافية.. عاش زمن محمد عبده ومصطفى كامل، ووعى دعوة سعد زغلول وسيد درويش، وشهد بوجدانه على مخاض الوطن من الاحتلال إلى المقاومة إلى النهضة. وكان صوته معادلًا موضوعيًا لكل تلك التحولات.فأي خذلان أن تمر ذكراه دون أن نحتفل به كما يجب؟ أي ذاكرة معطوبة تلك التي تهمل واحدًا من أرقى ما أنجبت مصر من أصوات وقلوب؟ إنني أكتب هذه الكلمات لا ككاتبة، بل كمواطنة تشعر أن الأمانة خانت صاحبها حين نسيناه، وتركناه لأجهزة تسجيل قديمة، وشرائط ممغنطة تتآكل من فرط التجاهل.الشيخ محمد رفعت لم يكن رجلاً من الماضي.. بل هو من المستقبل، من أولئك الذين كلما سمعناهم ازددنا توقًا للنقاء، وعرفنا كم كنا على صواب حين قدّرناه، وكم نحن على خطأ حين تجاهلناه. رحم الله صوتًا جعلنا نسمع السماء، وخجلًا على وطن لم يسمع صوته وهو يمر بجوار الذكرى.