“قصة الدم واللبن”: كيف تعيش قبيلة الماساي بين جوانب الحياة والموت

“قصة الدم واللبن”: كيف تعيش قبيلة الماساي بين جوانب الحياة والموت

الماساي.. ذلك الشعب الذي يستوطن دولتي كينيا وتنزانيا، وتحديدًا بالقرب من بحيرة توركانا، وتمتد تلك المنطقة إلى البحر الأحمر. يقدر عدد سكانه بحوالي مليون مواطن، ويتميزون بأنهم شعب حيوي يعمل في مهنة الرعي، يعيشون في الأراضي السهلية الشاسعة التي تكونت حول الأخدود العظيم لأفريقيا الشرقية.

ورغم مرور القرون، ظلوا يحافظون على طريقة حياتهم تقريبًا كما عاش أسلافهم، لا يبالون بالوقت ولا يتغيرون بتغير شروق الشمس وغروبها.
تُعد دراسة النظم الغذائية للمجتمعات التقليدية مدخلًا جوهريًا لفهم بنية المجتمع ورموزه الثقافية والاجتماعية والدينية، إذ يرتبط الغذاء في تلك المجتمعات بوصفه موردًا بيولوجيًا وعلامة ثقافية ورمزًا طقسيًا. وفي هذا السياق، يبرز شعب الماساي أحد أبرز المجتمعات الرعوية في شرق أفريقيا كنموذج فريد تتداخل فيه أنماط الغذاء مع المعتقدات الدينية والطقوس الاجتماعية، في إطارٍ من الاعتماد شبه الكامل على الثروة الحيوانية.
وتُشكل الماشية لدى الماساي محورًا تدور حوله كافة تفاصيل الحياة اليومية والاحتفالية؛ إذ لا تقتصر وظيفتها على كونها مصدرًا للغذاء فحسب، بل تُعد وعاءً اجتماعيًا ووسيطًا دينيًا يحمل دلالات رمزية متجذرة في الوعي الجمعي لهذا الشعب. ويتجلى ذلك بوضوح في اعتمادهم الرئيس على خليط اللبن والدم الذي يُعد غذاءً أساسيًا ومركبًا رمزيًا يوظف في المناسبات والطقوس المتنوعة.
يبقى الرابط الأقوى بين الماساي وقطعانهم من الأبقار. عبر قرون طويلة، ارتبط شعب الماساي بروابط عاطفية مع أبقار النو، والتي يعتقدون أن الله منحها لهم في الأسطورة التي تقول إن الابن الثالث لله كان مُقدَّرًا له أن يكون أبًا لأمة الماساي. ويُقال إن الأبقار ليست ملكًا للماساي فقط، بل هي جزء من هويتهم الثقافية.
تتغلغل الماشية في كل تفاصيل حياة الماساي، سواء في ممارساتهم اليومية أو في طقوسهم الدينية والاجتماعية. في هذا السياق، يُعتبر الدم والحليب أكثر من مجرد مواد غذائية، بل هما جزء من الوجود الروحي والرمزي للقبيلة، ويمثلان وسيطًا للتواصل مع الآلهة وحافظين للهوية الثقافية من بين عاداتهم المثيرة للدهشة، شرب خليط الدم الطازج من الأبقار مع اللبن. في صباحات المراعي، يُختار ثور قوي من القطيع ويُطلق عليه السهم في وريده، فتسيل كمية من دمه يُمزج بها الحليب الطازج، ويُقدَّم هذا المزيج للمحاربين والأقوياء من الرجال، معتقدين أنه يمنحهم القوة والشجاعة. تظل هذه العادة مثار جدل في العالم الحديث، لكن في فلسفة الماساي، الدم واللبن لا يرمزان فقط إلى الغذاء؛ بل إلى روح الحيوان وقوته التي تنتقل إلى الشارب، بينما يمثل الحليب خصوبة الأرض وكرم الطبيعة. إنه مزيج من الحياة والموت، تمامًا كما تنبض الحياة في هذه الأراضي القاحلة والصعبة، حيث يواجه الماساي تحديات الحياة اليومية.
فاللبن الطازج والمتخمر يُعد الغذاء اليومي الأساسي، وهو علامة على الصحة والرخاء ورضا الإله (إنغاي) عن الجماعة. بينما يُستخرج الدم من الوريد الوداجي للماشية بطريقة دقيقة، دون إزهاق روح الحيوان، في طقسٍ يحمل دلالة رمزية تتصل بالحفاظ على دورة الحياة، واستمرارية العطاء من الطبيعة دون الإخلال بتوازنها. ويُخلط الدم بالحليب في وعاء تقليدي يُطهّر بوسائط عضوية (كالقرون المغسولة بالبول الطازج للماشية) بوصفها مطهرات طبيعية، وتُعَد هذه الخلطة مصدرًا للطاقة والحصانة الجسدية، خاصة في مواسم الجفاف وشح المراعي.
ولعل المتأمل في ثقافات الشعوب الرعوية سيجد صدى لهذه الممارسة لدى المغول الذين مثّلوا بدورهم مجتمعًا رعويًا عسكريًا يعتمد على الماشية كمورد أساسي، واعتبروا الحليب، لا سيما حليب الأفراس، طعام الصفوة ومحاربي النخبة. وكان دم الحيوان يستخدم كذلك في طقوس القوة والحماية، خاصة قبيل المعارك، حيث اعتقد المحاربون المغول أن شرب دم الخيول أو الماشية يمنحهم قوة خارقة، ويحميهم من الأرواح الشريرة ومن الهزيمة.
ويكشف هذا التشابه عن وحدة البناء الرمزي لدى المجتمعات الرعوية في استلهام مفاهيم القوة والحماية من رمزية الماشية، وربط الدم واللبن بوصفهما مادتين مقدستين تجمعان بين الماساي والمغول .