اختفت الشمس عن سمائها

«أحب اللغة العربية وهى تخرج من فم سميحة أيوب».. هكذا قال عنها الشيخ أحمد حسن الباقورى وزير الأوقاف الأسبق وأحد علماء الأزهر الشريف..وكذلك وصفها الكاتب الكبير خيرى شلبى قائلا ..»حياتها كتاب مفتوح أى نعم.. ولكن العقدة فى قراءته ففيه صفحات بالعربية الفصحى، وأخرى بالعامية المصرية القح، واللهجة الصعيدية، وصفحات بالهيروغليفية والديموطيقية والقبطية وأخرى مكتوبة باللاوندى».. سميحة أيوب سيدة صاحبة هيبة ووقار ممثلة من طراز فخم..هى سيدة الفن الرفيع.. منذ أن اعتلت خشبة المسرح وحدث شىء بينهما، سحر ما مس الخشبة وسيدتها.. حدث جلل شهده المسرح يوم أن شهد ميلاد تلك الموهبة بين جدرانه لتبقى واحدة من أبرز وأكثر الممثلات اللاتى تمتعن بهيبة وجلال على المسرح وكأنها تتحول إلى شخص آخر، تتخلى عن ذاتها لتتجلى فى ذات أخرى،.. يتضخم حجمها ويجلجل صوتها العذب الرنان ليهز أركان المسرح القومى ودار أوبرا باريس.. معلنا عن سطوع نجمة ذات طابع استثنائى وربما غير متكرر بين جيلها من النجمات ومن تبعها من أجيال تالية.. زلزل خبر رحيل سيدة المسرح العربى الفنانة سميحة أيوب قلوب محبيها، تاركة إرثا فنيا كبيرا نحتت به جزءا أصيلا من تاريخ وذاكرة المسرح المصري.
عندما ذهبت لأتصفح تاريخ حياتها ومشوارها الفنى توهت بين مجموعة من الكتب والأوراق التي تناولت تلك المسيرة بمزيد من النقد والتحليل والتأريخ لهذه السيدة التي شكلت جزءا مهما من تاريخ ووجدان المسرح المصري ومن بين هذه الأوراق من حياة سميحة أيوب وجدتها تحكى عن نفسها وبداية لقائها بالراحل زكى طليمات.. وكأنى أستمع لنبرة صوتها المميز.. وهى تروى فى سلاسة بروحها المرحة.. سلاسة لا تخلو من الدعابة والوقار.«أول يوم دخلت فيه المسرح حصلت لى هوسة.. ظل أستاذى يتجاهلنى أثناء توزيعه للأدوار على زملائى وفى إحدى المرات أعطانى نص، وطلب منى حفظه ثم منحنى بعض الملاحظات حول النص وطلب منى أن أتى اليوم التالى وأكون قد حفظته بشكل كامل.. لم أنم طوال الليل وبالفعل ذهبت فى اليوم التالى وقدمت النص بكل الملاحظات فأبدى أستاذى إعجابه بما قدمت وهذا الأستاذ هو الفنان ومعلمى الكبير زكى طليمات لقيته بيقولى تعرفى إن دى أول مرة يخونى فيها ذكائى.. أنا روحت لوزير المعارف وعملت استثناء ليكى وهتبقى نظامية وتاخدى 6 جنيهات.. وهنا بدأت دراستى للمسرح تأخد شكلا مختلفا.. كنت أدرسه على خشبة المسرح وفى المعهد بعدها منحنى دور الملكة فى مسرحية.. «فى خدمة الملكة». فى نفس الحوار أشارت بأنها قامت بإخراج خمسة عروض مسرحية وكانت التجربة الأولى «مقالب عطيات» والتي كان من المقرر أن يخرجها الفنان عبدالرحمن أبو زهرة.. «كنت ساعتها اتعينت مديرة شعبة فى المسرح القومى ولما عبد الرحمن أبو زهرة اتأخر فى الأردن روحت لرئيس الهيئة السيد بدير فقالى اشتغليها انت وعملتها بطريقة زكى طليمات رسمت حركة ونمرتها ونجحت نجاحًا كبيرًا جدا لدرجة أن سمير خفاجة طلبنى أخرج مسرحية قلتله مش سكتى.. ثم قدمت عرضين للكاتبة الكبيرة فتحية العسال «ليلة الحنة»، و«الخرساء».ولدت سميحة أيوب يوم 8 مارس عام 1932 بحى شبرا فى القاهرة تخرجت فى معهد التمثيل وتتلمذت على يد المخرج المسرحى زكى طليمات عميد المعهد، قدمت 450 عملا فنيا منها 90 مسرحية تنوعت بين مسرح مصري وعربى وعالمى و115 مسلسلا وسهرة إذاعية، من أعمالها المسرحية التي تركت علامة وبصمة فى تاريخ المسرح المصري. أهدى المهرجان القومى للمسرح المصري دورته السابعة عشر التي أقيمت العام الماضى للفنانة سمحية أيوب، حيث حملت هذه الدورة اسم سيدة المسرح العربى، وبهذه المناسبة حرر الناقد الأمير أباظة كتاب تكريمها «طريق المجد والأشواك»..والذي احتوى على أسرار ومحطات هامة فى تاريخ السيدة سميحة أيوب سوف نستعرض بشىء من الإيجاز أهم هذه المحطات وبعض من ذكريات الفنانة الراحلة. بعد أن رشحها المخرج سعد أردش للعب بطولة رواية «الندم _الذباب» لجان بول سارتر.. زارها الكاتب والمخرج الفرنسى السينمائى كلود سوتيه رئيس تحرير جريدة الأوبزرفر الفرنسية وصافحها بحرارة..قائلا أنه لم يكن يتصور أن «ندم سارتر» ستقدم بهذه العظمة وأكد أنه سوف يخبر سارتر أن الذباب تعرض فى مصر بهذا المستوى الفنى الرفيع لكنه لا يضمن رأى سارتر فهو رجل لا يعرف المجاملة وأحيانا يتمتع بوقاحة نادرة ربما لا تعجبيه فى الشخصية التي تمثلينها والتي أعجبتنى كثيرا ولكن الفن وجهات نظر»!جاء سارتر إلى مصر بدعوة من الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام، بعد مرور عام ونصف العام على تقديم مسرحية «الذباب» أراد سارتر أن يشاهدها وكانت تعرض وقتها سميحة أيوب «الإنسان الطيب»، قررت إدارة المسرح يومها إيقاف عرض الإنسان الطيب بينما رفضت أيوب هذا القرار احتراما للجمهور وطلبت تقديم «الذباب» فى عرض خاص لسارتر والنقاد والصحفيين ماتينه على أن تقدم «الإنسان الطيب» فى السواريه، بعد انتهاء العرض التاريخى والاستثنائى صعد سارتر وسيمون دى بوفوار إلى خشبة المسرح قبل سارتر سميحة أيوب وقال «أخيرا وجدت إلكترا هنا فى القاهرة». كما أشعلت كوكب الشرق باريس بصوتها..أشعلت أيضا سيدة المسرح باريس بأدائها لدور «فيدرا» على خشبة مسرح دار أوبرا باريس عرضت «فيدرا» خمسة عشر يومًا متواصلة، وهذا أمر لم يحدث مع أى فرقة وافدة من قبل هذه الفرق تعرض يومًا أو اثنين فقط، كتبت عنها الصحف فى باريس العديد من المقالات وعقدت الكثير من الندوات، قيل عنها «أن هذه السيدة عندما دخلت المسرح التهمته».. وفى مقال آخر قال كاتبها.. «إنها تجمع بين قطبين جاد الزمن بهما أم كلثوم المصرية وماريا كالاس اليونانية».. وتحكى سميحة أيوب عن زياتها لباريس.. فى المساء ذهبنا إلى المركز الثقافى لندبر رحيلنا فى اليوم التالى وإذا بالملحق الثقافى الفنان فاروق حسنى يقول.. سأقرأ عليكم رسالة جاءتنى منذ يومين من كونتيسة فرنسية مشهورة برعايتها للثقافة.. تقول الرسالة: «كنت مدعوة فى تسع افتتاحات لأعمال فنية، لكن فضولى غلبنى، وقلت لأذهب لأرى جرأة المصريين عندما يتناولون مسرح «راسين» والحق يقال إنى ذهبت وبداخلى سخرية شديدة ماذا يفهم فنانو مصر فى هذا المسرح الصعب، الذي يتناوله الفرنسيون بحذر؟!، فمنذ أن لعبت «مارى بل» دور فيدرا لم تجرؤ أية فنانة على الاقتراب منه لأن هذا دور فخ، وفعلا ذهبت للمسرح وانفرج الستار، وبدأ الممثلون يقومون بأدوارهم، فإذا السخرية التي بداخلى أجد بدلا منها الاندهاش، وبعد الاندهاش أجد عجاب، من هذه السيدة التي تلعب دور «فيدرا» والسيدة التي تلعب دور «انيون» لابد أنهما ممثلتان فذتان فى مصر مدام أيوب ومدام رزق حيرتانى كثيرا، أيوجد هذا الوعى المسرحى العالى فى بلادكم، لابد أنكم مقصرون تجاه مسرحكم، وفنكم، لأننا لا نعرف عنه شيئا سوى الأغانى والفنون الشعبية، وأننى هنا أنقد نفسى نقدا ذاتيا على الفكرة المسبقة التي حكمت بها على العمل، وأيضا ما هذه اللغة الجميلة حقيقة، لم أفهم ولا كلمة ولكنى أفهم فيدرا عن ظهر قلب، إنها لغة تكاد تكون مثل الأوبرا لها موسيقى محببة للأذن!رحلت سميحة أيوب ولن يرحل بريقها.. سيظل أثرها محفورا فى وجدان وذاكرة المسرح المصري والعربى من هذه الأعمال المسرحية الخالدة.. «أجاممنون» تأليف سوفوكليس وترجمة لويس عوض وإخراج كرم مطاوع، «الأشباح» تأليف هنريك ابسن وإخراج عبدالرحيم الزرقاني، «أعظم امرأة» تأليف وإخراج يوسف وهبى، «انتبجون» إخراج سعد أردش، «الإنسان الطيب»، «الأيدى الناعمة»، «كوبري الناموس»، «الناس اللى فى الثالث»، «أنطونيو وكليوباترا»، «أهل الكهف»، «أولاد الشوارع»، «بير السلم»، «تاجر البندقية»، «تلميذ الشيطان»، «الجلف»، «ثورة الموتى»، «البخيل»، «بنات الريف»، «رابعة العدوية»، «الزير سالم»، «دماء على ستار الكعبة»، «الخال فانيا»، «حبيبتى شامينا»، «راسبوتين»، «السبنسة»، «السلطان الحائر»، «فى عز الضهر»، «سكة السلامة»، «غادة الكاميليا»، «الفتى مهران»، «الشيخ متلوف»، «طبيب رغم أنفه»، «العمر لحظة»، تولت الفنانة سميحة أيوب إدارة المسرح القومى منذ عام 1975 وحتى عام 1989، وكانت قد تولت مديرة المسرح الحديث عام 1972 حتى 1975.