أعادها من جديد لـ«يحيا»

أعادها من جديد لـ«يحيا»

الزمان: الحادية عشرة صباح الأحد الأول من يونيو الجارى.

المكان: محطة وقود سيارات المجاورة ٧٠ بالحى السابع بمدينة العاشر من رمضان.  الحدث: اشتعال النيران فى سيارة إمداد وقود البنزين.  محطة الوقود وسط منطقة سكنية، تحدها من ثلاثة اتجاهات عمارات ومدرسة وبيوت يقطنها مواطنون، بينما الجهة الرابعة الأمامية تطل على ظهير صحراوى. فى مثل هذه اللحظات الحاسمة، الثانية الواحدة تفرق، اتخاذ القرار لا يكون وليد صدفة، بل نتاج عقيدة، وجينات متوارثة وبنية معرفية دينية وأخلاقية وإنسانية تحكم سلوك المتصدى للفعل. المواطن المصري خالد محمد شوقى، سائق بسيط، مثل ملايين المصريين المجاهدين فى سبيل توفير متطلبات أسرهم وأداء عملهم، لم يكن يلفت الانتباه قبل أن تضعه الأقدار فى أقسى اختبار، ليفعل ما يخلده فى سجلات البطولة، وما عند الله خير وأبقى. فجأة.. اشتعلت النيران فى ناقلة إمداد البنزين، الموجودة داخل محطة الوقود، الثانية الواحدة تعنى الحياة أو الموت للعشرات، الجميع على بعد ثوانٍ من حافة كارثة محققة، حال امتداد النيران لخزانات محطة الوقود، أو انفجار صهريج سيارة الإمداد بما يحويه من قرابة 45 ألف لتر بنزين، جعله أشبه بقنبلة شديدة القوة التدميرية، تهدم عمارات مجاورة وتهدد مئات الأرواح. بلا سابق إنذار تُستحضر جينات البطولة الكامنة فى الشخصية المصرية السوية، يتخذ البطل القرار فى ثوان معدودات، قفز إلى كابينة شاحنة الوقود المشتعلة، وهو يدرك مدى الخطر المحدق به، لكنه يدرك أيضًا حجم الكارثة التي قد تحدث حال تباطؤه أو فراره من محيط الخطر، يختار بكل شجاعة أن يؤدى واجبه محاولًا إنقاذ أرواح العشرات، وضع نصب عينيه هدفًا واحدًا، الابتعاد بناقلة الوقود المشتعلة خارج المحطة، الابتعاد بها قدر الإمكان عن المربع السكنى، وإن كان الثمن حياته.  كان يسابق الزمن، للابتعاد إنقاذًا لحياة السكان، بينما النيران تقترب من جسده الطاهر، اشتعلت ملابسه، احترقت أجزاء من جسده، غادر  السيارة بعد أن بلغ بها موضعًا آمنًا خاليًا من المنشآت، أزال عن جسده ما بقى من ملابس فإذا بها تصحب معها جلده المحترق، لكن بطولته لم تنته بعد، وقف لدقائق يوجه رجال الإطفاء بإبعاد سيارة مواطن كانت متوقفة على مقربة من الناقلة المشتعلة. كان رجال الإطفاء قد وصلوا لموقع الحادث محاولين إخماد النيران، وما إن خفتت وظن البعض أنها تحت السيطرة، حتى انفجر الصهريج، ليصيب بطلًا آخر من رجال الإطفاء الذين كانوا يؤدون واجبهم لتنقل سيارات الإسعاف البطل خالد شوقى ورجل الإطفاء للمستشفى لتلقى العلاج.. واجه البطل خالد بنفس العزيمة حروق جسده، لمدة أسبوع، قبل أن يكتب الله له الشهادة، الأحد  الثامن من يونيو الجارى.    انتفضت مصر الرسمية والشعبية، تقديرًا للبطولة التي قدم فيها الشهيد البطل بيانًا عمليًا للتضحية والفداء والإيثار، تعكس جينات المصري الأصيل، وتؤكد بما لا يدع مجالًا لأى شك أن بين أبناء هذا الشعب البسطاء، الذين يسيرون بيننا فى الأسواق وفى الشوارع شخصيات عظيمة تحمل جينات البطولة، لا تتردد للحظة فى تقديم أرواحها فى سبيل الله والوطن وأمن وسلامة شعب مصر، أبناء مصر الأوفياء إذا ناداهم الواجب يلبون النداء. لا ينبغى أن تمر هذه البطولة، دون استلهام الدروس والعبر، وربطها بتضحيات وبطولات عظيمة فى كل المجالات، فقد قدم الشهيد البطل خالد شوقى بيانًا عمليًا للتضحية والفداء، من أجل الواجب وحماية الوطن وسلامة شعبه، «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا». هذا الشعب العظيم مفرخة الأبطال، حامل جينات التضحية والفداء، فهناك على ثغور الوطن الشرقية، فى الأول من يوليو 2015، كانت الساعة تقترب من السابعة صباحًا، عندما شق الصمت بالقرب من كمين الرفاعى بالشيخ زويد بسيناء، صوت سيارة متحشرج يعكس ثقل حمولتها. لم توقفها الطلقات التحذيرية، ولم تخترقها الطلقات الدفاعية، فالسيارة مصفحة، مفخخة تستهدف تدمير الكمين، فى هجوم إرهابى متزامن على عدد من الأكمنة فى سيناء. اتخذ الجنديان البطلان حسام جمال وأحمد عبدالتواب قرارهما المصيرى فى ثوان معدودة، تحركا من الكمين مسرعين لملاقاة العدو القادم، فى مسافة تحول دون بلوغ الموجة الانفجارية التجهيزات الهندسية للكمين، على بعد 75 مترًا يلتحم البطلان بالسيارة يضع أحدهما فوهة بندقيته فى فتحة ضيقة يرى منها الإرهابى السائق، بينما يطلق زميله النار على براميل المواد المنفجرة، لمنعها من بلوغ الكمين وهما يدركان أنهما يرتقيان فى ذات اللحظة شهيدين. ارتقى الجنديان حسام جمال وأحمد عبدالتواب فى سبيل الله والوطن وإنقاذ زملائهما، فى ذلك اليوم أحيا هؤلاء الأبطال ورفاقهم مصر كلها، التي أرادت لها دول خططت ومولت الانكسار فى هجوم متزامن على عدد من الأكمنة. قصص البطولات المعاصرة كثيرة، وفى كل المجالات، وهنا ينبغى استلهام الدروس والعبر وتقديمها بما تستحقه للأجيال  التي يستهدف الأعداء وعيهم وعزيمتهم وروحهم المعنوية: ١- يقول الله تعالى: «.. من قتل نفسًا بغيرِ نفس أو فسادٍ فى الأرضِ فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياهَا فَكأَنما أحيا الناس جميعًا» صدق الله العظيم، وهذا البطل -بإذن الله- بصنيعه أحيا نفوسًا كانت ستتعرض لخطر الموت، أحيا نفوسًا لـ«يحيا»، فقد رزقه الله الشهادة: «ولا تحسبن الذينَ قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياءً عند ربهم يرزقون»، انتقل إلى دار البقاء متأثرًا بحروق فى سبيل أداء الواجب وإحياء نفوسًا، فرزقه الله الحياة الأبدية نسأل الله أن ينزله منازل الشهداء. ٢- الشهادة قرار واختيار، يمكنك أن تنالها بصنيعك أينما كان مجال عملك، عين تحرس على ثغور الوطن وتدافع عن أمنه وسلامته من صفوف قواتنا المسلحة، أو تحرس الجبهة الداخلية من بين صفوف الشرطة المصرية، أو مقاتل بين صفوف الجيش الأبيض تضحى من أجل صحة وسلامة المواطنين، أو مقاتل على ثغور الوعى، مواطن تجاهد فى عملك لكسب الحلال لتربية أبنائك، أو فى أى مهنة وفى البطل خالد الذكر سائق شاحنة الوقود قدوة ومثل، المهم ما هو صنيعك وقرارك إذا وضعتك الأقدار فى لحظة الاختيار دائمًا قرارك الانحياز للعدل والحق والوطن وأمن شعبه وسلامته. ٣- جينات البطولة والفداء، متوارثة فى الشخصية، المصرية، وقوافل الشهداء  كُثر، تستحق أن تروى. الجيش من الجد سقنن رع وأبنائه فى حرب تحرير مصر من الهكسوس، مرورًا بمقاومة الاستعمار فى كل العصور وصولًا إلى أبطال حرب التحرير من الصهاينة والتطهير من الإرهاب الشهيد أحمد المنسى ورفاقه، إلى أبطال الشرطة فى معركة الإسماعيلية وصولًا إلى الشهيد محمد مبروك ورفاقه. شهداء القضاء والعدالة، شهداء الجيش الأبيض الأطباء المقاتلون على جبهة مكافحة وباء كورونا، شهداء ثغور الوعى ومواجهة التطرف الشهيد الشيخ الذهبى، مرورًا بغيرهم من الأبطال شهداء أداء الواجب المدنيين، وأحدثهم الشهيد خالد شوقى سائق شاحنة إمداد الوقود.  ٤- كما قدم الشهيد خالد شوقى بيانًا عمليًا للبطولة والفداء والتضحية من أجل الوطن وشعبه، قدمت الدولة المصرية الرسمية والشعبية بيانًا عمليًا بالوفاء للعطاء، فقد قوبل صنيعه بتقدير شعبى، فيما قدمت السيدة انتصار السيسي قرينة الرئيس عبدالفتاح السيسي العزاء لأسرته معربة عن تقديرها لموقفه البطولى الذي جسد فيه أسمى معانى الشجاعة والإنسانية. وقد نعى المهندس مصطفى مدبولى رئيس الوزراء الشهيد، وعدد من الوزراء حيث ذهب المهندس كريم بدوى وزير البترول ووفد من قيادات الوزارة إلى أسرة الشهيد بعزبة المصادرة التابعة لقرية مبارك بمركز بنى عبيد بمحافظة الدقهلية لتقديم واجب العزاء، معلنًا توفير فرصتى عمل بشركات وزارة البترول لاثنين من أسرته، مع وديعة مليون جنيه يصرف عائدها الشهرى للأسرة مع التكفل بمصاريف تعليم ابنته. أطلق رئيس مجلس مدينة العاشر من رمضان اسمه على الشارع الرئيسى بالمنطقة التي شهدت الحادث، فيما كان نعى الدكتور أسامة الأزهرى وزير الأوقاف موفقًا بالإشارة إلى أنواع الشهادة فى سبيل الله ومنها حالة الشهيد البطل نحسبه شهيدًا بإذن الله. وهنا الرسالة التي تقدمها الدولة والشعب المصري، أن هذه الدولة قيادة وشعبًا لا تنسى تضحيات الشهداء، ولا تهمل فى رعاية أبنائهم، وفى تلك الرسالة طمأنة للأحياء، أد واجبك واترك أمرك لله. ولقد رسخ الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ تولى المسؤولية، أسس العناية بأسر الشهداء وأطفالهم، من أجيال الأجداد فى معارك التحرير إلى شهداء معارك التحرير والتعمير، وفى احتفال الرئيس صباح عيد الفطر مع أبنائهم وتكريم أسماء الشهداء فى كل مناسبة، وخلق وعيًا متزايدًا بأهمية الوفاء لقيم العطاء والتضحية. وهنا يجب إبراز  قصص البطولة، لأبناء هذا الشعب البطل على مدار تاريخه عبر الإعلام وأعمال أدبية ودرامية لترسيخ تلك المفاهيم فى نفوس الأجيال. وفى الوقت ذاته مراجعة شروط السلامة المهنية للعاملين بالمهن الخطرة، وسائقى سيارات الإمداد بالوقود، وإلزامهم بارتداء سترات مضادة للنيران، وغيرها من الإجراءات اللازمة وفى القلب منها التدريب على أساليب التعامل فى وقت الأزمات الطارئة وتدريس ما قام به الشهيد الخالد بإذن الله فى ذاكرة الوطن ووجدان شعبه. حفظ الله مصر