سيف ابراهيم: عقدان من الفشل الاستراتيجي: قراءة في علاقة العراق بسوريا قبل و بعد الثورة

سيف ابراهيم
تأرجحت العلاقة بين العراق وسوريا طيلة العقدين الماضيين بين الشكوك والتحالف ، الصراع و التنسيق . ففي حين مثّل نظام الأسد قبل الثورة السورية مصدرًا رئيسياً لزعزعة الأمن العراقي ، انقلبت المعادلة مع اندلاع الثورة ، حيث وجدت بغداد في دعم دمشق ضرورة أمنية و استراتيجية . و اليوم في ظل انهيار نظام الأسد عام 2024 و صعود نظام جديد بقيادة “أحمد الشرع” ، يعاد رسم ملامح العلاقة بين البلدين في إطار إقليمي متغير .
المحور الأول : حتى العام 2011
موقف نظام الأسد من العراق ، وتقديم شكوى للأمم المتحدة بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ، فقد اتخذ نظام بشار الأسد موقفًا عدائياً مبطناً من النظام الجديد في بغداد . فعلى الرغم من المواقف الرسمية التي أعلنت رفض الاحتلال الأمريكي ، إلا أن سوريا أصبحت ممراً آمناً للمقاتلين الأجانب من مختلف الدول ، حيث تم تسهيل عبورهم إلى العراق ، مما أدى إلى تصاعد الهجمات الإرهابية داخل الأراضي العراقية .
في هذا السياق ، قدّم العراق عام 2009 مذكرة رسمية إلى مجلس الأمن الدولي ، يتهم فيها النظام السوري بإيواء و تسهيل نشاط الجماعات الإرهابية ، وعلى رأسها تنظيم القاعدة . وجاءت هذه الخطوة عقب تفجيرات الأربعاء الدامي التي ضربت بغداد ، و اتُّهمت فيها مجموعات تديرها شبكات من داخل الأراضي السورية .
أما على الجانب السوري ، فقد كان النظام ينظر إلى العراق ما بعد 2003 باعتباره تهديدًا للنفوذ الإقليمي ، و خطوة أمريكية لاحقة بإتجاه اسقاط الاسد . لذلك ، سعى الأسد إلى إغراق العراق بالفوضى ، لإفشال النموذج الديمقراطي الوليد فيه و إشغال امريكا بالداخل العراقي فقط !
المحور الثاني: حتى العام 2024
الثورة السورية و دور العراق في دعم نظام الأسد مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 ، فقد سارع العراق خصوصًا في عهد نوري المالكي إلى تبني موقف داعم لنظام الأسد ، وذلك لأسباب تتعلق بالأمن القومي و الطائفية السياسية . قدمت بغداد دعمًا لوجستيًا مباشراً ، عبر السماح بمرور طائرات إيرانية محمّلة بالأسلحة إلى دمشق ، وغضّت الطرف عن انتقال آلاف المقاتلين العراقيين إلى سوريا .
رأت الحكومة العراقية في بقاء نظام الأسد ضرورة لأمنها الإقليمي ، حيث اعتبرت أن سقوطه قد يؤدي إلى وصول جماعات متطرفة إلى السلطة ، بما يهدد العمق الأمني العراقي . غير أن هذه المقاربة فشلت عملياً حيث تمكن تنظيم داعش من احتلال مساحات شاسعة من العراق بين عامي 2014 و2017 ، ما أثبت أن دعم الأسد لم يحمِ العراق من ارتدادات العنف الإقليمي .
هنا تجلّى فشل آخر من قبل الدولة العراقية في قراءة الواقع الإستراتيجي والتعامل معه ، حيث دعمت نظامًا سبق أن تسبّب في مقتل الآلاف من العراقيين خلال سنوات ما بعد الاحتلال . وكانت الذريعة أمنية في ظاهرها، لكنها افتقرت إلى رؤية طويلة المدى، فكانت النتيجة كارثية على الداخل العراقي .
المحور الثالث : العام 2024
النظام الجديد في سوريا ، وملامح علاقة العراق بالشرع مع انهيار نظام الأسد عام 2024 و صعود نظام جديد بقيادة “أحمد حسين الشرع” – المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني – واجه العراق واقعًا سياسيًا جديدًا في دمشق . الشرع، الذي كان يُعدّ من المطلوبين في العراق خلال حقبة ما بعد 2003 ، أصبح فجأة الرئيس الشرعي لسوريا ، بعد عملية تحول داخلية ودعم دولي وإقليمي .
رغم تحفظات داخلية واسعة ، تعاملت بغداد مع النظام الجديد بواقعية ، و انتهى الامر بلقاء رسمي جمع رئيس الوزراء العراقي بالشرع في الدوحة قبل يومين ، في أول لقاء من نوعه .
لكن سواء أكان هذا اللقاء ايجابيآ أم لا ، فهو لا يخرج عن كونه رد فعل متأخر ، لا يعكس إرادة سياسية مستقلة . فالعراق بات دولة منقوصة السيادة ، تتحكم بمصيره قرارات فواعل إقليمية و دولية ، وعلى رأسها إيران و الولايات المتحدة ، مما يجعل أي تحرك خارجي غير نابع من مصلحة وطنية ، بل تابعًا لتفاهمات وأجندات خارجية ، فالعراق تقارب مع الاسد و ساعد في استمرار نظامه ( بوصاية ايرانية ) حين اندلاع الثورة متناسيآ دماء العراقيين التي سفكها ، و العراق حاليا قد مدّ يده للشرع مجبرا و مكرها ( امريكيا ) و الدماء العراقية ايضا هي الثمن !
هذا التخبط في المواقف لا يعكس سوى حالة الفشل المتراكم في إدارة السياسة الخارجية العراقية و التبعية الاقليمية و الدولية . فالدولة لم تستطع رسم مواقف واضحة أو اتخاذ قرارات إستراتيجية مستقلة . وبدلاً من أن تنطلق من مصلحة وطنية عليا ، كانت تحركاتها غالبًا استجابةً للضغوط الإيرانية و الامريكية أو لمعادلات طائفية داخلية .
ويكمن جوهر الأزمة في أن النظام العراقي الحالي قد أفرغ مؤسساته من الكفاءات ، وأغرقها بالحزبيين الذين يفتقرون إلى أي فهم للسياسة و الدبلوماسية . أدى ذلك إلى غياب الرؤية ، وانعدام القدرة على التعامل مع المتغيرات الإقليمية والدولية بفاعلية . كما أن التبعية لإيران جعلت من العراق لاعبًا تابعًا لا شريكًا حقيقيًا في القرارات الإقليمية .
خاتمة : العراق وسوريا كانا دائمًا ساحة واحدة لصراعات إقليمية كبرى . من تصدير الإرهاب إلى دعم الأنظمة ، ومن الجولاني كعدو إلى الشرع كرئيس ، يتجلى مدى التحول في المشهد السياسي . وبينما يعيد العراق ترتيب أوراقه ، فإن حالة التخبط المستمرة ، وغياب الاستقلال في القرار السياسي ، وارتباطه بأجندات خارجية ، كلها مؤشرات تنذر بأن الفشل سيظل حتميًا ما لم تُستعاد بوصلة المصلحة الوطنية.
باحث سياسي