قراءة في القصة القصيرة “حَنين” للدكتورة فاطمة الديبي

قراءة في القصة القصيرة “حَنين” للدكتورة فاطمة الديبي

 

    أ. نصر سيوب

 

  “حَنينٌ”
  في يومٍ مشرقٍ، عادت السيدة فاطمة إلى مدينتها بعد غيابٍ دام عشر سنوات، كانت قد تركت المدينة بعد تخرجها من الثانوية، وسافرت للعمل والدراسة في الخارج. والآن، وقد كبر والداها، قررت العودة للاستقرار بالقرب منهما.
وفي أحد الأيام، وبينما كانت فاطمة تقود سيارتها في شوارع المدينة التي تغيرت ملامحها كثيراً، مرت بجوار الثانوية التي درست بها، لم تكن قد مرت بجوارها منذ سنوات طويلة، وشعرت بمزيجٍ من الحنين والفضول.
توقفت بسيارتها أمام الثانوية، ونظرت إلى المكان الذي يحمل في طياته ذكرياتٍ لا تُنسى. كانت الثانوية تقع في حي شعبي لكنه نظيف وهادئ، تحيط بها منازل أنيقة وحدائق صغيرة، كانت واجهتها تتميز بتصميمها الكلاسيكي، مع أعمدة إسمنتية ونوافذ زجاجية كبيرة.. كانت  تقع على طريق  يؤدي من جهة اليسار إلى الجامعة ومن جهة اليمين إلى وسط المدينة، مما يجعلها موقعاً حيويّاً ومزدحماً.. كانت جدرانها  تحمل آثار الزمن، لكنها كانت لا تزال تحتفظ بجمالها ورونقها، تحيط الأشجار العالية بسورها خاصة جهة الإدارة ومرآب سيارات العاملين بها،… لم تتغير المؤسسة كثيرا عما كانت عليه أيام زمان.. شعرت بالحنين إلى أيام زمان وأناس زمان…
لكن سرعان ما تبددت مشاعر الحنين، وحل محلها شعورٌ بالدهشة والاستغراب.. كانت مجموعةٌ من الشابات والشبان يقفون أمام بوابة المؤسسة، أصواتهم عالية وضحكاتهم تملأ المكان.. كانت ملابسهم عصرية لا تمت للاحترام بصلة، وتصرفاتهم أقرب إلى الاستهتار، كان بعضهم يدخن، وبعضهم الآخر يتحدث بصوت عالٍ، وبعضهم الثالث يتبادل النكات والتعليقات الساخرة.. كانت الأجواء صاخبة وفوضوية، على عكس الهدوء والوقار اللذين كانا سائدين زمن فاطمة.
بينما كانت فاطمة تحدق في الثانوية، انتابها شعور غريب، وكأنها عادت بالزمن إلى الوراء، تذكرت أيام دراستها فيها، وكيف كانت الأجواء مختلفة تماماً، كانت الطالبات يرتدين الزي المدرسي المحتشم مع الوزرة التي ما كان يمكن لتلميذة أن تلج باب المؤسسة دونها، وكان الطلاب يتصرفون بوقارٍ واحترام.. لم يكن هناك صخبٌ أو ضجيج، بل كانت الأجواء هادئة ومليئة بالجدية.. كانت الطالبات يقضين أوقات الاستراحة في المكتبة أو في ساحة المدرسة، وكان الطلاب يناقشون المواضيع الدراسية والأدبية.
 لقد كانت الثانوية بالنسبة لها ولزملائها مكاناً للتعلم والتطور، ولكنها كانت أيضاً مكاناً للمرح والمتعة.
تذكرت كيف كانوا يفرحون عندما يغيب أحد الأساتذة، وكيف كانوا يستغلون هذا الوقت للذهاب إلى دار الشباب (رحال المسكيني) القريبة.. كانت دار الشباب مكاناً يجمعهم، حيث كانوا يمارسون هواياتهم المختلفة، فكان بعضهم يتدرب على المسرح، وبعضهم الآخر يقرأ الكتب في المكتبة، وبعضهم الثالث يشارك في الأنشطة الرياضية.
كانت فاطمة وزميلاتها يقضين ساعات طويلة في دار الشباب، يمارسن هوايتهن المفضلة وهي المسرح.. كن يتدربن على الأدوار، ويحفظن النصوص، ويصممن الأزياء والديكورات بأشياء بسيطة.. كانت دار الشباب بالنسبة لهن عالماً آخر، عالماً من الإبداع والخيال.
تذكرت فاطمة كيف كانت دار الشباب مكاناً للتعلم والتطور وصقل المواهب.. كانت المكتبة تضم مجموعة كبيرة من  أمهات الكتب  والمجلات الأدبية المرموقة، وكانت قاعات التدريب غير مجهزة بأحدث المعدات ولكنها كانت الفضاء الذي وجدت فيه فاطمة مع أصدقائها مجالا للإبداع والتميز.. كانت دار الشباب توفر لهم الفرصة لتنمية مهاراتهم واكتشاف مواهبهم.
كانت فاطمة تتذكر بحنين كيف كانت دار الشباب مكاناً للتواصل الاجتماعي، حيث كانوا يلتقون بأصدقائهم، ويتشاركون أفكارهم وآراءهم، ويتبادلون الخبرات والمعلومات.. لقد كانت مكاناً يشعرون فيه بالانتماء والتقدير.
بينما كانت فاطمة تتذكر هذه الذكريات الجميلة، نظرت إلى الشابات والشبان الذين يقفون أمام الثانوية، فشعرت بالأسف عليهم لأنهم لا يستغلون وقتهم بالشكل الصحيح.. تمنت لو أنهم يدركون أهمية الأنشطة الثقافية والاجتماعية، وأنها يمكن أن تساهم في بناء شخصيتهم وتنمية قدراتهم.
شعرت بالحزن على هذا الجيل، الذي يبدو أنه فقد الكثير من القيم والأخلاق التي كانت سائدة في الماضي.. تمنت لو أنه يدرك أهمية الحشمة والوقار، وأن القيم والأخلاق هي أساس النجاح والسعادة.
أكملت فاطمة طريقها، وهي تفكر في الفرق بين الماضي والحاضر، مدركة أن الزمن يتغير، وأن الأجيال تتطور، لكنها كانت تأمل أن يحتفظ جيل الشباب ببعض القيم الجميلة التي كانت سائدة في الماضي، وأن يستغل وقته في الأنشطة التي تفيده وتساهم في بناء مستقبله.
            *****************

ــ مقدمة :
في رحلة العمر، تبقى محطات الماضي عالقة في الذاكرة، تستدعيها الروح بين الحين والآخر بشوق وحنين.. قصة “حنين” للدكتورة فاطمة الديبي هي غوص في هذه المشاعر الإنسانية العميقة، حيث تعود بنا الكاتبة إلى زمنٍ مضى، وتلامس شغف الروح للذكريات الجميلة ومقارنتها بواقع الحاضر.
في هذه القصة، ترافقنا السيدة فاطمة في عودتها إلى مدينتها بعد غياب طويل، وبين شوارعها التي تغيرت، تتوقف أمام صرح ذكرياتها؛ ثانويتها القديمة ودار الشباب التي شهدت أجمل أيامها.. هنا يتفجر الحنين بمرارة ممزوجة بالدهشة، وهي ترى التغيرات التي طرأت على جيل الشباب وقيمه.
تتميز قصة “حنين” بأسلوبها المؤثر الذي يمزج بين السرد العذب والوصف الدقيق، وتطرح تساؤلات عميقة حول مسيرة الزمن وتأثيره على القيم والأخلاق، إنها دعوة للتأمل في العلاقة بين الماضي والحاضر، وفي مسؤولية الأجيال تجاه حفظ الجميل من القيم.

ــ في أحضان القصة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان يتكون من خبر مرفوع لمبتدإ محذوف تقديره (هذا)، وهو مصدر حَنَّ يَحِنُّ، وهو الشوق، قال الشاعر أبو نواس :
“وتَحِـنُّ من شَوْقٍ إليْـ …. ــهِ حَنيـنَ دائمَـةِ الحَنيـنِ”
 ومن الناحية الدلالية فالعنوان يعكس جوهر القصة ويحمل دلالة واضحة على الشوق والاشتياق إلى الماضي، وإلى فترة زمنية تحمل في الذاكرة صوراً ومشاعرَ جميلة، ويعكس حالة الشخصية الرئيسية “فاطمة”، التي تعود إلى مدينتها بعد غياب طويل وتستعيد ذكريات الماضي بأسىً وعاطفة.
فالحنين هنا ليس مجرد ذكريات، بل صراع بين المثالية الماضية والواقع الحاضر، ويثير لدى القارئ مشاعر مشابهة، ويدعوه للتفكير في ذكرياته الخاصة وأماكنه العزيزة.

2 ــ الأحداث :
تتمحور القصة حول عودة “فاطمة” إلى مدينتها بعد غياب عشر سنوات للعيش قرب والديها، وخلال تجوالها تَمرُّ بالثانوية حيث دَرَست، فتتوقف أمامها، واصفة المبنى الذي لم يتغير كثيراً، لكنها تُفاجَأ بسلوك مجموعة من الشباب الصاخبين عند البوابة حيث ملابسهم غير محتشمة، وضحكاتهم عالية، وتصرفاتهم مستهترة، على عكس الأجواء الهادئة والجدية التي سادت في زمنها. تسترجع ذكرياتها زمن الدراسة حيث الزي المحتشم، والأنشطة الثقافية في دار الشباب القريبة (رحال المسكيني) مثل المسرح والقراءة، والمناقشات الأدبية مع الزملاء.. فتُقارن بين ماضيها المليء بالإبداع والانضباط، وحاضرٍ تراه فارغاً من القيم، ما يُثير حزنها وأسفها على الجيل الجديد.. تُغادر المكان وهي تتأمل التغيير الحاصل، وتتمنى أن يدمج الشباب بين إيجابيات الحاضر وقيم الماضي.

3 ــ الشخصيات :
ــ فاطمة : الشخصية الرئيسية، حيث
تمثل النموذج المثالي للجيل الماضي، الذي يحمل قيما وأخلاقيات معينة (الاحترام، الجدية، الإبداع)، تعود إلى مدينتها وتشعر بالحنين إلى أيام شبابها وتقارنها بواقع الجيل الحالي. تتميز بشعورها بالمسؤولية تجاه مجتمعها وقلقها على قيم الشباب.
ــ والدا فاطمة : شخصيتان ثانويتان، يمثلان الدافع الرئيسي لعودة فاطمة إلى مدينتها.
ــ جيل الشباب الحالي : مجموعة من الشابات والشبان أمام الثانوية، يمثلون التغيرات التي طرأت على المجتمع وقيم الشباب، يتم تصويرهم بشكل سلبي من منظور فاطمة.
ــ زملاء فاطمة وأساتذتها : شخصيات غير حاضرة بشكل مباشر، ولكن يتم استحضارهم من خلال ذكريات فاطمة، ويمثلون جزءا من الماضي الجميل.

4 ــ  الزمان والمكان :
١ ــ الزمان : تتأرجح القصة بين زمنَيْ الحاضر؛ المتمثل في يوم عودة فاطمة إلى مدينتها بعد عشر سنوات، وقيادتها لسيارتها ومرورها بجوار الثانوية. والماضي؛ المتمثل في فترة دراسة فاطمة في الثانوية وترددها على دار الشباب، عبر تقنية الاسترجاع (الفلاش باك)، حيث تُقارن فاطمة بين حاضر المدينة المُتغير وماضيها الذي تحن إليه. هذا التضاد الزمني يُبرز التطور الدرامي للمشاعر من الحنين إلى الدهشة فالحزن.

٢ ــ المكان :
    ــ المدينة : مدينة غير محددة الاسم، ولكن يوصف فيها حي شعبي نظيف وهادئ.
    ــ الثانوية : تقع في الحي الشعبي، وتتميز بتصميمها الكلاسيكي وموقعها الحيوي بالقرب من الجامعة ووسط المدينة. وهي رمز للذكريات والهوية وبالإضافة إلى جمالها الكلاسيكي تميزها بهدوئها السابق، لتصبح لاحقا مكانا للفوضى والاستهتار.
    ــ دار الشباب (رحال المسكيني) : مكان قريب من الثانوية، يمثل فضاءً للأنشطة الثقافية والاجتماعية والإبداع وهوايات الشباب في الماضي، مقابل غيابه الرمزي في الحاضر، مما يُظهر انحسار الفرص الثقافية للشباب اليوم.

5 ــ اللغة :
تستخدم الكاتبة كعهدها لغة واضحة وسلسة قريبة من القارئ، تساهم في نقل المشاعر والذكريات بفعالية. كما تستخدم الكاتبة لغة سردية وصفية، حيث تصف فاطمة المدينة والثانوية وذكرياتها بدقة. وكذا استخدامها للغة تعبيرية، حيث تعبر فاطمة عن مشاعرها وأحاسيسها بصدق. وبشكل عام، فاللغة في القصة تعتبر أداة فعالة في نقل الفكرة والشعور إلى القارئ.

6 ــ أساليب السرد :
بالنسبة للسرد فالكاتبة بقيت وفية لأسلوبها في الكتابة من حيث اعتمادها على منظور الرؤية من الخلف باستخدام ضمير الغائب، مما أتاح للقصة بُعداً موضوعيّاً، كما اعتمدت على الوصف التفصيلي للأماكن (الثانوية، دار الشباب) والأجواء (هدوء الماضي، صخب الحاضر)، مما يساعد على خلق صورة حية في ذهن القارئ. كما مزجت بين السرد والوصف؛ حيث يتناوب السرد الذي يقدم الأحداث مع الوصف الذي يرسم المشاهد ويعبر عن المشاعر.
كما استعملت الكاتبة أسلوب السرد الرجعي أو تقنية “الفلاش باك” كما سبق الذكر.

7 ــ الرمزية :
    ــ الثانوية : ترمز إلى مرحلة الشباب والتعليم والقيم التي اكتسبتها فاطمة، ورغم بقاء المبنى كما هو فقد تحوَّلَتْ وظيفته الرمزية من مكان للعلم والوقار إلى فضاء للفوضى، مما يعكس تآكل القيم مع تغير الزمن.
    ــ دار الشباب : ترمز إلى فضاء الإبداع والتواصل الاجتماعي وتنمية المواهب في الماضي وقوة الثقافة في بناء الشخصية، إلا أنه أضحى
الفضاء الثقافي المُهمَّش والإبداع المفقود في الحاضر.. وهذه المقارنة الضمنية بين ماضيه وحاضره يرمز إلى تراجع المؤسسات الداعمة للإبداع، وانتصار الثقافة الاستهلاكية.
    ــ الأشجار العالية حول الثانوية : يمكن أن ترمز إلى الأصالة والرسوخ والقيم الراسخة في الماضي، وإلى الحماية والاستقرار والنظام الذي كان يوفره الماضي. وفي المقابل اختفاء ذكرها في وصف الحاضر قد يُلمح إلى انكشاف المجتمع أمام رياح التغيير العاتية.
     ــ صخب الشباب الحالي وتصرفاته وملابسه : يرمز إلى الفوضى والاستهتار في نظر فاطمة، كما يرمز إلى الانزياح عن القيم والهوية المتفككة، فالملابس العصرية غير المحترمة تُعبِّر عن رفض التقاليد والتمرد على الهوية القديمة، والسلوكيات الصاخبة (التدخين، النكات الساخرة) ترمز إلى الفراغ الروحي وغياب الأهداف، مقابل الأنشطة البناءة في الماضي (المسرح، المناقشات الأدبية).

8 ــ الرسائل :
تحذر القصة من انهيار القيم، فالتغيير ليس شرّاً بذاته، لكن الخطر يكمن في التخلي عن الجذور الأخلاقية لصالح حداثة فارغة. كما تنبه إلى أن إهمال المؤسسات الثقافية (كدور الشباب) يؤدي إلى انحراف الشباب، لذا يجب إعادة الاعتبار لهذه المؤسسات وتشجيع الأنشطة الفكرية والفنية والقيم الإيجابية، وضرورة توجيه الشباب نحوها. كما تقدم القصة نقدا لثنائية الماضي والحاضر، فليس كل قديمٍ مثاليّاً، وليس كل حديثٍ سلبيّاً، لكنها تُطالب بتوازن يحفظ الهوية ويستفيد من التطور. كما تلقي المسؤولية على الأجيال السابقة لفشلها في توريث قيمها الإيجابية للشباب (كالحشمة، الجديّة) مما أدى إلى فجوة بين الأجيال، لذا تدعو إلى تذكر وتقدير الجوانب الإيجابية في الماضي والقيم الأصيلة وزرعها في الأجيال الحالية.

ــ خاتمة :
“حَنينٌ”، قصة قصيرة مؤثرة للدكتورة فاطمة الديبي، استخدمت خلالها الرموز لنقد مجتمعي غير مباشر، حيث ترفض رومانسية الماضي المطلقة، لكنها تُنذر بخطر التحولات الاجتماعية السريعة التي تُهمِّش الهوية وتقتل الإبداع، وتقارن بين قيم جيلين مختلفين، طارحة قضايا اجتماعية مهمة حول التغيرات التي تطرأ على المجتمع وقيم الشباب، على الرغم من أن تصوير الجيل الحالي قد يبدو متحيزا بعض الشيء، إلا أن الكاتبة تنجح في إثارة مشاعر الشوق إلى الماضي ودعوة القارئ إلى التأمل في مسيرة الزمن وتأثيرها على القيم والأخلاق.
المغرب