محمد باهي: “كرونولوجيا” الدراما العربية بين النجاحات والإخفاقات

محمد باهي
يكاد يكون هناك إجماع لمتتبعي الأعمال الإبداعية، سواء التلفزيونية أو السينمائية على صعيد الوطن العربي، على أن الشق المرتبط بالدراما عرف تراجعا كبيرا من حيث وتيرته الانسيابية وحجم الموضوعات التي كان يلامسها، ولعل “الريبيرتوار” التراكمي لمختلف الأعمال الدرامية منذ ستينيات القرن الماضي يسجل أن مصر كانت تتصدر محصلة الإنتاج الدرامي على مدى عقود ،وهي فترة زاهية في مجال الإبداع التلفزيوني والسينمائي ،تزامنت مع بروز فئة واسعة من رواد الدراما آنذاك ،فضلا عن كونها كانت فترة تاريخية لها بصمتها الأيديولوجية في العهد الناصري ،وماتلاه من محطات عصيبة عقب النكبة والصراع العربي الإسرائيلي الذي كان على أشده آنذاك، هذه الحقبة بتجاذباتها الفكرية والأيديولوجية والحماس الجماهيري والحس الوطني ،كلها عوامل ألهبت إلهام المنتجين والمخرجين ،فوجدت إلى جانب ذلك ثلة من أهرامات وقامات من الفنانين من العيارالثقيل ، لتجسيد وتشخيص الأدوار باحترافية عالية ،مستمدين كفاءاتهم من قدرات مدارس ومسارح الفن التي ساهمت في صقل مواهبهم وتأهيلهم للنهوض بالمجال الإبداعي ،دون تناسي حركة التلاقح والتفاعل الثقافي والإبداعي بين العديد من المدارس السينمائية ،التي كانت تتصدر المشهد الإبداعي آنذاك ،ولعل أبرزها المدرسة الهوليودية في أوج عطاءاتها ونشأتها.
ويستحضر المتتبعون في هذا الشأن أبرز أعمدة الفن المصري الذين أغنوا “ريبيرتوار” الدراما المصرية بأعمالهم الخالدة ،من قبيل :فريد شوقي وعبد الله غيث ويوسف شعبان ومحمود عبد العزيز وعمر الشريف ومحمود ياسين ويونس شلبي وإسماعيل ياسين ومحمود لمليجي وفؤاد المهندس ،وأحمد بدير وسمير غانم وعادل إمام وعزت لعلايلي وأحمد زكي وسعيد صالح وغيرهم ،إلى جانب فنانات مقتدرات ونجمات متألقات ،على رأسهن فاتن حمامة ، سعاد حسني، شادية ،فردوس عبد الحميد ، أمينة رزق ،يسرا ،بوسي وغيرهن كثيرات ،ممن لازال السجل الخالد للأعمال الدرامية يشهد لهن بعطاءاتهن الراقية ،حيث يتبادر إلى الأذهان أعمال ذات أبعاد تاريخية واجتماعية من قبيل: المال والبنون ، الشهد والدموع،لن أعيش في جلباب أبي، رأفت الهجان ،أرابيسك، ليالي الحلمية،ذئاب الجبل …..إلى غيرها من الأعمال الدرامية الخالدة التي ستظل ذات وقع في الوجدان العربي.
وعقب التألق الممزوج بالريادة والتفوق التاريخي للدراما المصرية ،برز صنف جديد استمد خصوصيته ومقوماته من هوية وتاريخ بلاد الشام ،وأعني بذلك تحديدا الدراما السورية التي اتخذت منحى آخر من خلال مواقع الاشتغال ، حيث فضلت المجال والامتداد الطبيعي والخيل والليل والفرسان والمعارك كتيمات وموضوعات رئيسية ،عكس الدراما المصرية التي اختارت الصالونات والأبنية الكلاسيكية الفاخرة كمواقع للاشتغال، وتتبدى بعض الأعمال في هذا الصدد من قبيل:ابتسم أيها الجنرال،الأجنحة،سنعود بعد قليل ،ولاد بديعة ،باب الحارة ،ليالي الصالحية،سحابة صيف ،سقف العالم … وعلى رأس رواد الدراما السورية آنذاك:دريد لحام، رغدة، نادين الخوري،ناهد حلبي، عصمت رشيد،عبد الهادي الصباغ مصطفى هلال ،أيمن زيدان ،سوزان الصالح وغيرهم كثر.
وبالرجوع إلى الحركة الانسيابية لإنتاجات الدراما المصرية والسورية، في حقب وأزمنة ،وصفت بالفترات الزاهية المتسمة بأوج العطاء الفني في أرقى وأبهى تجلياته ، يقف المتتبعون في الوقت الراهن على التراجع الكبير للفن بشقيه التلفزيوني والسينمائي منذ سنة 2011 ،وهو تاريخ سيبقى له وقعه الخاص في التاريخ والوجدان العربي ،حيث شهدت مجموعة من الدول انتفضات وثورات شعبية ومواجهات أفضت إلى ما أفضت إليه على المستويين السياسي والاجتماعي ،إلا أن وقع تلك الانتفاضات قد كان له بالغ الأثر على مستوى الأعمال الإبداعية التلفزيونية والسينمائية ،خاصة ما يتعلق بالدراما العربية ، “السورية منها على وجه الخصوص” ،فضلا عن بروز التحولات التاريخية في جانبها الأيديولوجي والسياسي، والأنظمة الرأسمالية وتشعباتها ،وحالة التيه التي أدخلت العالم برمته في دوامة من الحيرة والارتباك ،التي تحيل في نهاية المطاف ،على أن وتيرة الاستقرار،”سوريا نموذجا” ، هي الضامن الأساسي، والبوصلة الحقيقية ولوحة القيادة الواضحة المعالم لمواصلة الإبداع بمختلف تلاوينه وأصنافه، والارتقاء به إلى مراتب جد متقدمة مواكبة لتطورات العصر وتحدياته .
كاتب من المغرب