شوقية عروق منصور: بين ربطة العنق مسافة من الرعب والقلق

شوقية عروق منصور: بين ربطة العنق مسافة من الرعب والقلق

شوقية عروق منصور

كانت مدفونة تحت التراب ، نفض عنها الغبار وأطلقها على الشاشة متحسراً ، مجموعة من ربطات العنق تصهل ألوانها داخل كرنفال الأناقة ، الدكتور ” فايز أبو شمالة ” من غزة يرثي جدران بيته المدمر الذي تحول إلى كومة من الاسمنت والحجارة ، ومن بين أنفاس اللقاء وغرس سكين الوجع في ظهر الجدران التي اختفت ، وجد ” الدكتور فايز ” ربطات عنقه ، وبدأ يتذكر المناسبات واللقاءات التي كانت ربطة العنق عبارة عن قوس قزح للفرح أو تساهم  في لون طلاء الحديث التلفزيوني أو تأتي في زيارة لفصل من فصول التواجد مع الأصدقاء ،  في جميع الحالات كانت ربطة العنق صامتة  تسجل لحظات من عمره القابع في الذكريات.
” الدكتور فايز ” يحمل مجموعة ربطات العنق التي بقيت من منزله الذي سطر جولات التوحش العسكري،  ومن خلال تسلق ذكريات بيته كانت الربطات تثرثر تريد تسلق العنق لكن المناسبات رحلت وحل محلها الهروب واللجوء من مكان إلى مكان والزحف حسب الأوامر القادمة من الاحتلال .
 هناك من اعتبر رثاء ” ربطات العنق ” مسرحية بائسة في زمن الوجع الذي يدفع فواتير الصمت ، وهناك من اعتبرها ثرثرة فارغة تتجول في شوارع القهر اليومي ، وهناك من اعتبرها هروباً من الذاكرة الواقعية إلى الذاكرة المخملية ، وبينهما تتجول حسرة لتؤكد أن الذكريات جزءاً من الوفاء للماضي .
لقد احتوت ” ربطة العنق ” زمناً عبر سريعاً  وصار فيه رغيف الخبز يترجم صراخ المستحيل وشهوة الجوعى .
عربات الحمير
عندما أصدر الكاتب توفيق الحكيم كتاب  ” حماري قال لي ” سخر  بعض النقاد من العنوان ، وقد أعادها توفيق الحكيم مرة ثانية في رواية ” حمار الحكيم – نشرت عام 1940  ” مع العلم أن الحمار قد دخل في الأدبيات العربية والغربية ، وما زالت رواية ” الحمار الذهبي ” ” للكاتب والفيلسوف الجزائري  ” أبوليوس توفي عام 180 م”  مرجعاً للفلسفة وهي أول رواية في التاريخ التي وصلت كاملة وتحكي عن تحول الانسان إلى حمار بفضل مرهم سحري ، وقد عاش الحمار نفاق الانسان والظلم البشري ثم عاد إلى أصله .
ورغم أن الحمار قد استقال من عمله في بعض المجتمعات، وهناك تغطية على إنجازاته التاريخية الهامة وعند بعض المجتمعات تحول إلى علامة تجارية ، في الصور والمجسمات السياحية ،  إلا أن الحمار  في غزة تحول إلى بطل يمارس بطولته يومياً في تحميل البضائع ونقل الناس وأصبح أيضاً سيارة اسعاف على الطراز الغزاوي الحديث .
في قمة اللامبالاة العربية و العالمية نشم رائحة الموت في كل مكان ، قطاع غزة يفتح الجرح العميق قطبة قطبة ، هل يستوعب العقل أن العربة التي يجرها الحمار تحمل عدة جثث ؟؟ هل يستوعب العقل أن العربة التي يجرها الحمار ترسم فوق الخشبة والعجلات البدائية والحمار الراكض حياة المصاب الذي يترنح ويتوجع حسب الطريق الترابي المتعرج ؟؟!!
هل يستوعب العقل أن العربة التي يجرها الحمار تحت الشمس الحارقة لا تحمل أي وسيلة من وسائل الإسعاف قد تحولت إلى وسيلة انقاذ في زمن الضحكات المرتفعة وهي تشعل أعواد الثقاب .
كما يصادق الرفض الصراخ ، نؤكد أن الحرب على غزة ستدخل الصفحات التاريخية حيث ستكون الكتابة بحبر الدهشة من قدرة الانسان على تكسير المستحيل تحويله على بقايا مرايا لكي يرى الذين صمتوا انفسهم في هذه البقايا .
الدموع الصامتة
أقف أمام هدير الجياع ، وأمام الطناجر الكبيرة  لا مجال للتأمل ، ولكن هناك من يحاول أن يحول أصوات ” المعد الخاوية”  إلى موسيقى تعزف السلام الملكي له، وأقصد ظاهرة التصوير والاعلان ، هناك من يتبرع لكن قبل التبرع يحاول التقاط الصور وجعل المحتاج حكاية تبث وتسطر بطولة المتبرع .
ومن بين الصور التي تتوضأ بالدموع الصامتة الأطفال الذين فقدوا عائلاتهم، حين يتكلمون عن آبائهم و أمهاتهم اللواتي استشهدن  بحرقة مكبوتة ،  يقلبون صفحات  الأيام القادمة ولا يعرفون أين سيجدون أنفسهم ؟
أحاول لملمة الواقع وأتساءل كيف سيكون شكل ” الميتم الكبير ” ؟
في مواجهة طواحين الزمن ، كيف سيكون شكل هؤلاء الأطفال عندما يكبرون؟
أي ذكاء اصطناعي وأقمار اصطناعية و” ربوتات ” وباقي العائلة الالكترونية  التي تهدد وجود الانسان  سيقف أمام عقل وذاكرة وتفكير وانتقام هؤلاء الأطفال ؟
من السهل قراءة الكف وقراءة خطوط فناجين القهوة ، ولكن من الصعب على السياسيين  قراءة نظرات طفل وصل إلى حد الجوع  والعطش وفقدان عائلته وبيته وعاش أيام القصف وقسوة رعب الليالي .

كاتبة فلسطينية