من كادش 1956 وحتى سهم باشان 2024

من كادش 1956 وحتى سهم باشان 2024

د. فايز أبو شمالة
الحروب الإسرائيلية على البلاد العربية بشكل عام ليست وليدة أحداث ميدانية، ولا هي رد فعل لعمليات المقاومة ـ كما يزعم البعض ـ ولا هي نتاج أطماع شخصية لهذا القائد الإسرائيلي أو ذاك، ومحركها ليس حزبياً كما يُظن، ولا هي دفاع عن النفس كما يقال.
الحروب الإسرائيلية على البلاد العربية تتجاوز حدود أرض فلسطين السياسية، وتغطي كل المنطقة الممتدة إلى ما هو أبعد من نهر النيل ونهر الفرات، وهي غير مقترنة بالأوضاع السياسية والمصالح الاقتصادية، إنها حروب دينية من وجهة نظر الإسرائيليين أنفسهم، رغم إصرار النظام العربي والفلسطيني على وصفها بحرب الحدود، أو حرب الأطماع السياسية، وأن محركاتها اقتصادية أو حزبية، متجاهلين حقيقة قيام دولة إسرائيل نفسها على أسس دينية، اعتمدت على حلم العودة إلى أرض الميعاد، أي الأرض التي أعطاها لهم ربهم خالصة من الشوائب البشرية، وفق سفر التكوين، مع التأكيد على أن أركان معتقدهم التوراتي لا تكتمل إلا بهدم المسجد الأقصى، وذبح البقرة الحمراء، تطهراً لهم من الخطايا والآثام، كخطوة أولى على طريق إعادة بناء الهيكل المزعوم.
وهنا قد يقول البعض أن الحركة الصهيونية فكرة سياسية، تقف من خلفها مصالح وأطماع مجموعة من ذوي رؤوس الأموال، وتخدم الأهداف الاستعمارية في المنطقة، وهذا حديث سياسي يخلو من الوجاهة، لأن الأصل في فكرة الصهيونية هي الوثائق والمستندات والكتب الدينية المتوارثة عبر آلاف السنين، تلك الكتب التي قدسها دعاة الحركة الصهيونية، وهم يدعون اليهود للعودة إلى فلسطين، وسعوا إلى تطبيق تعاليمها بكل السبل.
وللتأكيد هنا سأشير إلى الحضور التوراتي في مثالين للحروب الإسرائيلية:
المثال الأول: عملية سهم باشان
وسهم باشان هي العملية العسكرية الإسرائيلية التي دمرت مواقع الجيش العربي السوري، مجرد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون أول 2024، حيث تعمد الجيش الإسرائيلي سحق مقدرات الشعب العربي السوري العسكرية، في هجمات عنيفة بالطائرات لم تشهد المنطقة لها مثيلاً.
فما هي الأصول التوراتية لعملية باشان؟
باشان في الرواية الإسرائيلية هي المنطقة الجغرافية التي تقع شمال شرق بحرية طبريا، أي أنها جزء من الأراضي السورية وفق خريطة سايكس بيكو القائمة، ولكن باشان أرض إسرائيلية وفق كتاب اليهود المقدس، حيث ذُكر اسم باشان 59 مرة في سفر التثنية، الذي يصف الانتصار التاريخي لهم على ملكها عوج، فيقول:
ثم تحولنا وصعدنا في طريق باشان فخرج عوج ملك باشان للقائنا فقال لي الرب: لا تخف منه لأني أسلمه إلى يدك هو وكل قومه وأرضه فدفع الرب إلهنا إلى أيدينا عوج أيضا ملك باشان وكل قومه فضربناه حتى لم يبق له شارد. وأخذنا كل مدنه في ذلك الوقت لم تكن مدينة لم نأخذها منهم ستين مدينة كانت مسورة بأسوار عالية وأبواب ومزاليج فحرمنا رجال كل مدينة ونساءها وأطفالها، أما كل البهائم فنهبناها لأنفسنا غنيمة.
الرواية التوراتية السابقة تؤكد أن الهجوم على الجيش السوري لم يكن عدواناً عسكرياً فقط، بمقدار ما كان بعثاً للأساطير التاريخية التي تحض على القتل واخذ الغنائم، وامتلاك الأرض بما عليها، وتفتح شهية المجتمع الإسرائيلي على المزيد من العدوان والتوسع.
عملية سهم باشان لم تكن الأولى التي يستوحي فيها الجيش الإسرائيلي أسماء عملياته العسكرية من التوراة والتراث الديني اليهودي، فقد أطلق الإسرائيليون اسم “كادش” على العملية العسكرية التي احتل فيها سيناء سنة 1956
فهل جاءت تسمية “كادش” لأسباب سياسية أم لدوافع تاريخية توراتية؟
“كادش” واحة تقع في سيناء على حدود فلسطين، وبالتحديد في منتصف الطريق الممتد من رفح على البحر المتوسط وحتى العقبة على البحر الأحمر، في تلك البقعة من الأرض أقام النبي موسى وقومة كل سنوات التيه، بعد أن طردهم فرعون مصر من بلاده.
وكما جاء في التوراة، فقد حاول اليهود خلال سنوات التيه دخول فلسطين من جهة غزة، فتصدى له عماليق، وهزموهم، وطردوهم من أرضهم، فحاول ثانية دخول فلسطين من جهة الخليل، فتصدى لهم ملكها عراد، وهزمهم وطردهم من أرضه، ليواصلوا التواجد في واحة كادش كل سنوات التيه، قبل أن يشقوا طريقهم إلى الجنوب، في حركة التفافية باتجاه شرق الأردن، كما تقول رواياتهم.
لقد أطلق الإسرائيليين اسم كادش على العملية العسكرية التي احتلوا فيها سيناء سنة 1956، للتأكيد على أن جذورهم التاريخية تعود إلى ذلك المكان، وللتأكيد بأنهم سيعودون إلى الأرض التي طردهم منها المصريون، وأن لهم حقوق تاريخية وتوراتهم في تلك الأرض العربية المصرية الواقعة على ضفة نهر النيل الشرقية، وفق ما جاء في سفر التكوين 15ـ 18 “في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”
ولم يقتصر الأمر على سهم باشان وحرب كادش بارنيع، فقد استحضر قادة إسرائيل الكثير من الاشارات الدينية التوراتية، وأسقطوها على حروبهم مع الفلسطينيين.
ففي شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد شهر واحد من معركة طوفان الأقصى، استشهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطاباته ثلاث مرات على الأقل بآيات من التوراة، لتبرير الهجوم على غزة، ولتحريض الجند على ممارسة الإرهاب كعقيدة.
ففي أحد خطاباته، قال نتنياهو للجنود الإسرائيليين: تذكروا ما فعله عماليق بكم، في إشارة إلى عماليق الذين كانوا يسكنون غزة وأجزاء من صحراء النقب وصحراء سيناء، وذكر نتانياهو عماليق لتبرير هجمات الجيش الإسرائيلي الانتقامية على أهل غزة. مع العلم أن كلمة عماليق تعني في الثقافة اليهودية ذروة الشر الجسدي والروحي.
الحرب مع العدو الإسرائيلي لم تنته، ولن تنتهي، الحرب مفتوحة على التاريخ والمعتقدات الأسطورية، وستظل قائمة طالما ظل ذوو الذوائب يؤمنون بأنهم أصحاب رسالة سماوية توراتية، يقف من خلفها رب إسرائيل الذي لن يخذلهم، وسيقدم لهم أعداءهم فرائس في كل حين.
كاتب فلسطيني /غزة