نورالدين برحيلة: المغرب: وســــــاد الفساد

نورالدين برحيلة
معظم المغاربة باتوا مقتنعين بأن ما اصطلح عليه العهد الجديد مجرد سردية أسطورية إيديولوجية، وقناع بئيس أسوأ من العهد القديم، وأن القطيعة مع إيديولوجيا الممارسات السابقة لم تكن إلا وهما وسرابا، بل إن الفساد أصبح شرسا متوحشا شاملا ومكونا من مكونات مغرب الألفية الثالثة.
مظاهر الفساد بمؤشراتها ومعدلاتها الكارثية تفصح عن مستقبل زلزالي تمتد تصدعاته إلى كل مناحي الحياة في المغرب، لا يوجد في المغرب قطاع واحد لا ينخره الفساد، بل إن الفساد هو القانون الذي يسير كل المؤسسات المغربية، وكل من سولت له نفسه اللوامة أن ينتقد المفسدين مصيره معروف، والنتيجة: تفقير منتظم وممنهج، فوارق طبقية فلكية، هيمنة منطق العلاقات والولاءات على منطق الاستحقاقات والكفاءات، ارتشاء في الخدمات، جيوش عاطلين تائهين حائرين، وفوضى عارمة تختفي في مفهوم الحرية، واغتيال للحريات العامة، مهننة الدعارة صناعة التسول، هندسة المخدرات، ازدهار التفاهة والجنون، تقزيم للعمالقة، وعملقة الأقزام والوصوليين..
يعيش مغرب اليوم تخلفا شاملا وترهلا أصاب كل مؤسسات الدولة، وأخطرها الترهل السياسي.
لماذا؟
الجواب حقيقة مرة يجب قبولها وتجرعها، مضمونها وفحواها أن العقل السياسي المغربي الذي راكم وعيا واستنارة وتحررا وحرية بفضل الشرفاء من المناضلين والمقاومين الذين هزموا الاستعمار الفرونكو/إسباني، هذا العقل السياسي المستنير تم الانقضاض عليه في سنوات الرصاص والتهامه في العهد الجديد، وتزييف كل مكوناته وتدجين كل آلياته، الآلة الجهنمة للدولة العميقة، نجحت في قتل آلية التفكير الحر، النقد البناء، آلية الإبداع.. وتحول العقل السياسي المغربي اليوم إلى وسيلة للتنميط وصناعة مواطن مطواع، صناعة مواطنين متشابهين كحبات الأرز، مواطنين ذائبين ومنصهرين في القوالب الجاهزة لهذا العقل السياسي البغيض.
إن خطورة القصور السياسي نابعة من قصور العقل السياسي في المغرب المعاصر، عقل سياسي مُشَوَّه ومُعاق يمتلك سلطة القرار السياسي وتدبير مؤسسات الدولة، ومخلفاته وإفرازاته وتبعاته على باقي المؤسسات، تخلف المؤسسة الإعلامية الرسمية (حمدا لله على الإعلام الإلكتروني)، الإعلام الرسمي نموذج صارخ للتخلف وصناعة قيم اللامواطنة، اللامسؤولية، العدمية، العبثية.. إعلام الاستحمار والاستبلاد وقلب الحقائق، سترى احتراق الأطفال المشردين بحرائق الاغتصاب والعذاب، وسترى البؤس والسخط في وجوه المُسنِّين جرّاء آلام صحية تجعلهم يطلبون الموت أملا في النسيان، وستبصر جحافل المعطلين يتألمون في اصرار واصطبار.. وسترى العنف بالسيوف يفتك بالأستاذة والشرطي والطفل والعجوز، وسيخبرك الإعلام الرسمي أن المغرب استثنائي في الأمن والأمان، وسيستفزك الإعلام الرسمي بعد قطرات امطار خفيفة هدمت منازل هوت فوق رؤوس سكانها البسطاء، الذي سيفترش منهم من بقي حيا العراء، في حين أن المذيعة الجميلة ستتحدث عن أمطار الخير والنماء، ورغم بؤس خيام الذل والعار بمنطقة الحوز حيث الأسر مازالت تعيش القهر والعذاب بين زمهريرالشتاء وجحيم الصيف، بعد سنوات من الزلزال ووعود المسؤولين المزلزلة، وبعد النشرة مباشرة سيمتعونك بسهرة المساء.. ستشاهد شبابا وشابات لا يعكسون بالمطلق شبابنا المقهور وهم يرقصون وكأن الكارثة حدثت في كوكب الزهراء.
لن أُفصِّل القول في تخلف المؤسسة التعليمية، سيما في مجال القيم (العنف، الغش، المخدرات..).. وتخلف مؤسسة القضاء، وتخلف مؤسسة الصحة والصحة النفسية والعقلية على وجه التحديد (طوابير من المجانين تفك الارتباط بعقولها بسبب قساوة وضغوطات الحياة).. وتخلف مؤسسة الأسرة.. أما تخلف المؤسسة الدينية في المغرب فكارثي، رغم ادعاءات الإصلاح الديني والتغني بالنموذج الديني المغربي، وأبسط مظاهر تخلف المؤسسة الدينية هو هدر الإمكانات الضخمة للمؤسسة الدينية برساميلها الرمزية والمادية، وتحنيط الفضاء الديني، وعدم تجديد وظائفه كشريك لصناعة الحياة وقيم التقدم والتسامح والإبداع.. لن أطيل في إبراز تخلف كل المؤسسات، باختصار إن الدولة المغربية ينطبق عليها اسم “الدولة الفاشلة” بتعبير تشومسكي.
هذه بعض من مشاهد مغرب اليوم، وإذا كان تاريخ الحركات الاحتجاجية في المغرب المعاصر في خطوطه العريضة مشحونا برفض الاحتقار والمطالبة بالعيش الكريم، فإن كرونولجيا احتجاجات صفرو، مكناس، فاس، الرباط، العيون، الحسيمة، تنغير، تونفيت، خنيفرة..، احتجاجات أسرة التعليم، احتجاجات شغيلة الصحة، هي احتجاجات في معظمها باختلاف حجمها، درجتها وتلاوينها يبقى العامل المحرك لها عاملا اجتماعيا، احتجاجات ضد غلاء المعيشة، ضد غياب الخدمات، ضد الإقصاء…، وتعالجها الدولة بمنطق القمع والعنف، فتزيد من تعميق معاناة المواطنين، وتحويل الاحتجاج من صبغته الاجتماعية إلى احتجاج سياسي ضد الدولة وأجهزتها.
وإذا كان الهدف من وجود الدولة في الأنظمة الديمقراطية هو خدمة المواطنين، وتوفير الحرية والأمن (لا استعباد المواطنين كما يؤكد اسبينوزا) والخدمات وسيادة وتدبير الأزمات، بالحوار العقلاني، وعدم اللجوء إلى العنف تجاه المطالب المشروعة للمواطنين، مما يكسب الدولة صبغة شرعية ويعطيها المشروعية ويمنحها الإجماع الوطني ويجعل كل الأفراد في خدمتها لأنها منبثقة من اختيارهم وإرادتهم، وتوجد رهن إشارتهم، وهذا هو منطق العقلانية المعاصرة التي تعتمد آليات الخطاب العقلاني والإنصات والحوار والتشارك، أما استخدام القهر والاستبداد والتخويف، ينتج مواطنين فاقدين للثقة بالدولة، منافقين لها، ينتظرون سقوطها، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في زمن بعيد، وهو ما نعايشه في وطننا، اغتيال للديمقراطية باسم الديمقراطية، اغتيال للحرية باسم الحرية، اغتيال للكرامة باسم الكرامة، هذا الوضع الاتفصامي خلق مواطنين يمتلكون وجهات نظر متعددة متضاربة بخصوص قضية واحدة، أصبحنا نعيش داخل مجتمع يحترف الفكر الانتهازي، ويستطيع المواطن أن يتخذ شكل الإناء الذي تتواجد به مصلحته الخاصة، الهاجس هو المصلحة الشخصية التي تراق على مذبحها قيم المواطنة، القبول بالاختلاف، العيش المشترك، تضامن الفئات المستفيدة بحكم استحقاقها لا انتهازيتها، والمتموقعة في المجتمع مع الشرائح المهمشة والدنيا، الفئات في وضعية صعبة.
إن استفحال الفساد الشامل في العهد الجديد في كل المجالات، في السياسة، العدل، التعليم، الصحة، الاقتصاد…، خلق يأسا عميقا في إمكانية الإصلاح، واليأس هو بوابة العبثية والعدمية، وإنتاج كل أشكال الفساد والانحراف، وإذا كان إجماع المغاربة على أهمية المؤسسة الملكية في توحيد المغرب والمغاربة على اختلاف مشاربهم وأعراقهم، فإن فساد المسؤولين يجعل العهد الجديد امتدادا للعهد القديم، وحتى مقولة إن الملك ملك الفقراء، بمعنى أنه يشعر بآلام البسطاء، ويُدشِّنُ أوراشا تجعل المغرب بيتا ديمقراطيا لكل المغاربة، مغرب المساواة وتكافؤ الفرص، واحترام كرامة المواطن، لكن أمام استفحال فساد الساسة المغاربة فإن تلك المقولة تتحول من ملك الفقراء إلى ملك على الفقراء، وبالتالي يصبح العهد الجديد مجرد وهم كبير وأسطورة متهافتة..
كاتب مغربي