د. فاطمة الديبي: حنان معكوز: شغف يصنع فنّاً.. والجسد الأنثوي بوصلة التعبير:

د. فاطمة الديبي
في عالم الفن التشكيلي الرحب، تبرز أسماء لامعة صنعت مجدها بجهد ذاتي وشغف لا يلين؛ ومن بين هؤلاء المبدعين، نلتقي بالقنيطرة مع حنان معكوز، الفنانة التشكيلية العصامية التي عشقت ريشة الألوان منذ نعومة أظفارها، وحوّلت شغف الطفولة إلى لغة بصرية فريدة تخاطب الوجدان..
لم تكن حنان ابنة معاهد الفنون أو خريجة أكاديمياتها، بل كانت تلميذة الحياة، استمدت دروسها الأولى من مرسم عمها الفنان التشكيلي المتميز، الذي كان بمثابة البوصلة التي وجهت خطاها الأولى في دروب الإبداع، فمنه تعلمت مسك الفرشاة، ومزج الألوان، وأسرار الظلال والنور. كانت تراقبه بشغف وهو يحوّل اللوحة القماشية البيضاء إلى عوالم نابضة بالحياة، فزرع في قلبها بذرة حب الفن التي سرعان ما نمت وأينعت.
لم تكتف فنانتنا بمشاهدة عمها، بل كانت تمارس الفن بشغف وهي لا تزال في سن مبكرة، كانت تجد متعة لا تضاهى في تلطيخ أصابعها بالألوان، ورسم خطوط عفوية تعبر عن خيالها الطفولي الجامح. كانت ترى في الرسم وسيلة للتعبير عن مشاعرها وأفكارها، التي تعجز الكلمات عن وصفها.
ومع مرور السنوات، نما شغفها بالفن التشكيلي وتعمق. لم تتوقف عن التعلم والتجريب، فقرأت الكتب، وشاهدت أعمال كبار الفنانين، وحاولت استكشاف مختلف المدارس والتقنيات الفنية. ولم يقتصر سعيها للمعرفة على الدراسة الذاتية، بل حرصت على صقل موهبتها وتوسيع آفاقها من خلال المشاركة الفعالة في المشهد الفني. فقد شاركت في العديد من المعارض الفنية، سواء كانت فردية تعكس رؤيتها الخاصة أو جماعية جمعتها بنخبة من الفنانين، وذلك في مدن مغربية مختلفة، مما أتاح لجمهور أوسع التفاعل مع إبداعاتها. كما أنها لم تتوانَ عن الحضور والمساهمة في ورشات فنية تشكيلية متنوعة، إيماناً منها بأهمية تبادل الخبرات واكتساب تقنيات جديدة تثري مخزونها التشكيلي. وفي رحلتها الفنية، لم تتردد في تجربة الرسم ضمن مدارس فنية متنوعة، سعياً لاكتشاف صوتها التشكيلي الخاص. ومع ذلك، سرعان ما تميزت بلمسة فريدة أصبحت بصمتها المميزة في عالم الفن، وهي رسم الجسد البشري خاصة الأنثوي بأسلوب تجريدي غامض. تحمل هذه الأجساد المجردة في طياتها عدة مواضيع ومعاني عميقة، تثير في المتلقي التساؤلات والتأملات، وتدعوه للدخول في حوار صامت مع اللوحة. وفي حياتها الشخصية، تحظى الفنانة حنان بدعم كبير من زوجها الذي يعشق الرسم هو الآخر ويتفنن فيه.. يمثل زوجها السند والصديق والشريك الذي يشجعها دائماً على المضي قدماً في مسيرتها الفنية.. كما أن شغف حنان بالفن انتقل إلى أطفالها الثلاثة الذين يمارسون الرسم بدورهم، مما يخلق جوّاً فنيّاً ملهماً في العائلة. كانت مثابرتها وعزيمتها وقوداً لمسيرتها الفنية، وإيمانها بموهبتها هو الدافع الذي جعلها تتخطى كل الصعاب…
تتميز أعمال حنان معكوز بأسلوبها الخاص، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة.. تستلهم في لوحاتها من محيطها، ومن ذكريات الطفولة، ومن تأملاتها في الحياة والإنسان. تعكس ألوانها الزاهية والمفعمة بالحيوية نظرتها المتفائلة للعالم، بينما تحمل خطوطها الجريئة والواثقة بصمة فنانة متمكنة من أدواتها.
لم تسع حنان يوماً للأضواء والشهرة، بل كان هدفها الأسمى هو التعبير عن ذاتها وترك بصمة فنية صادقة. ومع ذلك، لم تغب أعمالها عن أعين المتذوقين للفن، وسرعان ما بدأت لوحاتها تجد طريقها إلى المعارض الفنية والبيوت، التي تقدر الجمال والإبداع.
ولا يختلف اثنان حول لوحات الفنانة، لأن بصمتها واضحة ومتميزة، فقد اختارت جسد المرأة شعارا لأعمالها الراقية، ولم يكن الاختيار مجرد مصادفة، بل هو خيار فني واعٍ، ينطلق من رؤية عميقة لهذا الجسد، بوصفه مصدراً للإلهام ورمزاً غنيّاً بالدلالات. ففي كل خط منحنٍ، وفي كل تداخل لوني، تبدو الفنانة وكأنها تستكشف جوانب متعددة للأنوثة، عابرةً بذلك التصوير السطحي إلى أعماق التجربة الإنسانية للمرأة.
لا يقتصر الأمر على تمثيل الجسد في صورته الفيزيائية، بل يتعداه ليلامس تجلياته المختلفة على المستويات العاطفية والنفسية والروحية. ففي بعض اللوحات، قد تتبدى القوة الكامنة في المرأة من خلال خطوط جريئة وتكوينات راسخة، بينما في أخرى، يعكس انسياب الألوان وهدوء التكوين إحساساً بالسلام الداخلي أو الحلم الرقيق.. وحتى في لحظات الانكسار أو الحزن التي قد تترجمها ضربات فرشاة أكثر حدة وألوان قاتمة، يبقى الجسد الأنثوي حاضراً كشاهد على هذه المشاعر الإنسانية العميقة.
إن تجريد الجسد في أعمال حنان معكوز يمنحها حرية استثنائية في التعبير عن هذه التجليات المتنوعة. فبدلاً من التقيد بملامح محددة أو تفاصيل واقعية، تستطيع الفنانة أن تركز على الجوهر، على الإحساس الكامن وراء الشكل.. يصبح الجسد هنا بمثابة أرضية بصرية تنطلق منها الفنانة لاستكشاف مواضيع الوحدة والانتماء، أو ربما العزلة والاغتراب. إنها رحلة بصرية تأخذ المتلقي إلى ما وراء المرئي، حيث يصبح الجسد الأنثوي لغة بصرية عالمية قادرة على التعبير عن أعمق المشاعر والتجارب الإنسانية المشتركة.
إن قصة فنانتنا هي قصة شغف تحول إلى فن، وموهبة صقلتها التجربة والممارسة.. إنها شهادة حية على أن الإبداع لا يعرف قيوداً، وأن الحب الحقيقي للفن يمكن أن يصنع فناناً عظيماً حتى بدون أسوار الأكاديميات.
حنان معكوز ليست مجرد رسامة تشكيلية، بل هي رمز للإصرار والعزيمة، وملهمة لكل من يحمل في قلبه حلماً يسعى لتحقيقه. لقد أثبتت أن الفن ينبع من القلب أولاً، وأن الشغف هو أقوى معلم وأصدق مرشد في رحلة الإبداع.