أ. خالد شبلي: “من أجل تنظيم منجمي حكيم: تحليل قانوني شامل لمشروع قانون الأنشطة المنجمية الجديد”

أ. خالد شبلي
” فلنُشرّع بعقل اقتصادي، ولكن أيضًا بقلب وطني، وببصيرة سيادية، لأن الثروات المنجمية ليست ملكًا للجيل الحالي فقط، بل أمانة في أعناقنا للأجيال القادمة.”
تمهيد: لحظة تشريعية مفصلية
يشهد البرلمان الجزائري في الآونة الأخيرة مناقشة أحد أهم النصوص القانونية في مسار التحول الاقتصادي للبلاد، وهو مشروع القانون الجديد المتعلق بالنشاطات المنجمية، ولا يخفى أن هذا المشروع يُعالج ملفًا ذا طابع سيادي حساس، باعتباره يتعلق بإطار استغلال الثروات الباطنية، والتي هي في الأصل ملك للشعب الجزائري، كما تقرر ذلك المادة 20 من الدستور.
ومن هنا، فإن هذا القانون لا يُفترض أن يُقرأ فقط كمجموعة من المواد المنظمة أو كوسيلة لإزالة العوائق البيروقراطية أمام المستثمرين، بل يتوجب قراءته كـ محطة تشريعية تؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة وثرواتها، تُعيد من خلالها تحديد حدود السيادة الاقتصادية، وتوازنها مع ضرورات الانفتاح والاستثمار.
تهدف هذه القراءة إلى تقديم تحليل قانوني متجرد لمضامين المشروع، من خلال تقييم موضوعي لتوجهاته، وتحليل إصلاحاته الجوهرية، ومقارنتها بالتشريع السابق (القانون 05-14)، وانتهاءً بتقديم مقترحات عملية لتحصين هذا الانفتاح وضمان توازنه مع المصلحة الوطنية العليا.
أولاً : الرؤية العامة للمشروع: من منطق الريع إلى منطق الاستثمار المنتج
يرتكز مشروع القانون المعروض على البرلمان على مقاربة إصلاحية متعددة الأبعاد، من أبرز معالمها:
التحرر من الإرث البيروقراطي الذي ميّز المنظومة السابقة، عبر تقليص عدد الرخص، وتوحيد الإجراءات، وتبسيط المسار الإداري؛
تحرير الاستثمار المنجمي من خلال إلغاء قاعدة الشراكة الإجبارية (51/49) التي كانت تُكبّل المستثمر الأجنبي، والسماح له بالدخول الكامل في المشاريع؛
تحويل التراخيص المنجمية إلى أدوات مالية قابلة للرهن والتنازل، بما يجعل منها أصولًا قابلة للتداول والاستثمار البنكي؛
توسيع صلاحيات الوكالتين المنجميتين، ليس فقط في منح التراخيص، بل في مراقبة وتتبع الاستغلال والتأكد من احترام الالتزامات التعاقدية؛
دمج المسار البيئي ضمن الإجراءات الإدارية، بما يسمح بتفادي تكرار الإجراءات والتضارب بين المصالح القطاعية.
ثانيًا : الإصلاحات الجوهرية في المشروع: تحليل نقدي قانوني
إن هذه الانفتاحات، رغم وجاهتها في المنظور الاقتصادي، تستدعي تحصينات قانونية واضحة حتى لا تنقلب إلى بوابة للتفريط، أو يُساء استخدامها في ظروف غياب الرقابة والشفافية المؤسسية.
إلغاء تصنيف “المواد الاستراتيجية”: تحرير محفوف بالمخاطر
يعتبر إلغاء تصنيف عدد من المواد المعدنية كـ “استراتيجية” من أبرز مستجدات المشروع، إذ يُقصد منه تسهيل دخول رؤوس الأموال الأجنبية وتجاوز العراقيل التي كانت تفرضها الرقابة السيادية المفرطة.
لكن من الناحية القانونية، فإن هذا التحول يطرح إشكالية غياب معيار موضوعي ومستقر لتعريف “المواد الاستراتيجية”، مما يجعل القرار خاضعًا لسلطة تقديرية قد تتأثر بالضغوط السياسية أو اعتبارات السوق، دون ضوابط دستورية أو قانونية واضحة.
وبالتالي، يصبح من اللازم دسترة أو تقنين “معيار السيادة الاقتصادية” ضمن المشروع، حفاظًا على الثروات ذات الحساسية الجيواستراتيجية.
التوصية : ضرورة إدراج مادة صريحة تنص على أن الحكومة تُعد، كل سنتين، قائمة بالمواد المنجمية التي تخضع لحماية خاصة لاعتبارات تتعلق بالأمن الوطني أو السيادة الاقتصادية، ويُعرض هذا التصنيف على البرلمان للمصادقة عليه.
تحويل الرخص إلى سندات مالية قابلة للرهن والتنازل
يُعد هذا التوجه نقلة نوعية في فلسفة تسيير النشاط المنجمي، فبدلًا من التعامل مع الرخص كتصاريح إدارية قابلة للسحب، باتت تُعتبر بموجب المشروع سندات مالية يمكن رهنها للبنوك أو التنازل عنها لطرف ثالث.
هذه المقاربة تعزز الجاذبية الاستثمارية من خلال تمكين صاحب الرخصة من تعبئة موارد مالية لتطوير المشروع، كما تُحسن من قابلية المشاريع للتمويل الخارجي.
لكن، من منظور القانون العام، تطرح هذه الآلية ثلاث إشكاليات رئيسية:
احتمال استعمال الرخصة كأداة للمضاربة المالية، خاصة في حال تم منحها لأطراف غير جادة أو غير قادرة على الإنجاز؛
غياب معيار زمني أو مادي يربط الرخصة بالإنجاز الفعلي؛
إشكالية التنازل بدون مراقبة سيادية، حيث قد تُنقل الرخصة لمتعاملين أجانب دون المرور بأي آلية ترخيص ثانية.
التوصية: التنصيص صراحة على أن الرخصة تصبح قابلة للرهن أو التنازل فقط بعد تحقيق نسبة معينة من الإنجاز الفعلي (مثلاً 30%)، وأن أي تنازل يخضع لموافقة الوكالة المنجمية وفق دفتر شروط واضح.
تبسيط الإجراءات الإدارية: النجاعة لا تعني التساهل
يُسجّل المشروع نقطة إيجابية في مسار تبسيط الإجراءات، من خلال دمج المسارات الإدارية وتكليف وكالة واحدة بمتابعة المسار الكامل لمنح الترخيص، هذا من شأنه أن يحدّ من الازدواجية الإدارية ويُسرّع في اتخاذ القرار.
لكن من الناحية الرقابية، فإن تبسيط الإجراءات لا يُعفي من ضرورة فرض آليات محاسبة وشفافية، خاصة أن القطاع المنجمي بطبيعته حساس من حيث الرهانات المالية والإيكولوجية.
التوصية:
إلزام الوكالات بنشر تقارير دورية عن الرخص الممنوحة؛
تفعيل المراقبة الرقمية وتبادل البيانات بين الجهات القطاعية (البيئة، الطاقة، العمل، الداخلية)؛
عرض قائمة الرخص الكبرى (حسب القيمة أو الامتداد) على لجنة برلمانية مختصة قبل منحها.
إدماج البعد البيئي – تقدم مهم يحتاج لاستكمال
في سابقة تنظيمية مهمة، أدمج المشروع الترخيص البيئي ضمن الرخصة المنجمية، مما يوحي برؤية شمولية للمشروع الاستثماري، ومع أن هذه الخطوة تُنهي زمن التعارض بين الوصاية البيئية والاقتصادية، فإن هناك خطرًا حقيقيًا يتمثل في تحوّل الالتزام البيئي إلى مجرد إجراء إداري شكلي لا يعكس التزامات فعلية.
وفي ظل غياب هيئة وطنية مستقلة تُراقب مدى احترام الشركات للمعايير البيئية، تُصبح حماية البيئة رهينة بضمير المستثمر، أو حسن نية الإدارة، وهما معياران غير كافيين من منظور الدولة القانونية.
التوصية: إنشاء هيئة وطنية مستقلة لحماية البيئة في القطاع المنجمي، تتمتع بسلطة التحقيق، ولها صلاحية توقيف المشروع مؤقتًا أو نهائيًا في حال وجود تهديد فعلي للبيئة أو للمجتمعات المجاورة.
ثالثًا: من القانون 05-14 إلى مشروع 2025 : مقارنة نقدية واستشراف تشريعي
مقارنة مرجعية بين القانون الحالي (05-14) ومشروع القانون الجديد لسنة 2025، تمثل المقارنة بين الإطار القانوني السابق والنص المعروض فرصة لفهم التحولات العميقة التي يُراد إرساؤها على مستوى الرؤية والوظيفة والضبط القانوني.
منطق السيادة في قانون 05- 14 المتضمن قانون المناجم:
القانون رقم 05-14، المؤطر للنشاطات المنجمية منذ حوالي عقدين، اتسم بطابع تحفظي ومقيد، تمثل في:
تصنيف عدد واسع من المواد المعدنية كـ”استراتيجية”، وهو ما كان يمنح الدولة حق التدخل في ضبط كل مراحل الاستثمار، ويقيد حركة رأس المال الأجنبي.
إلزام الشراكة مع طرف وطني بنسبة 51% كحد أدنى، مما أضعف قدرة الجزائر على جذب استثمارات دولية ضخمة، خصوصًا في الصناعات المنجمية المعقدة التي تتطلب تكنولوجيا متقدمة.
منح الرخصة في شكل تصريح إداري جامد، لا يمكن رهنه ولا التنازل عنه إلا بشروط معقدة، مما جعل من الترخيص “حقًا هشًا” في نظر المستثمرين.
تعقيد المسار الإداري لتسيير المشاريع المنجمية، من خلال تعدد الجهات الوصية، وتضارب الاختصاصات، وكثرة الآجال المعرقلة.
مشروع القانون الجديد: انتقال إلى منطق السوق وضبط مرن
في المقابل، جاء مشروع قانون 2025 يتسمية جديدة للنص الاطاري ” النشاطات المنجمية” بدل “المناجم”، وبمنطق أكثر تحررًا، يقوم على إعادة التوازن بين:
فتح المجال للاستثمار الوطني والأجنبي دون اشتراط نسب شراكة مسبقة؛
تحويل الرخصة إلى سند مالي ذي طابع تجاري يمكن تداوله؛
إلغاء الصفة الاستراتيجية عن أغلب المواد، دون الإشارة إلى ما تبقى منها أو طريقة تصنيفها؛
دمج المسارات البيئية والإدارية في إجراء موحد يُشرف عليه جهة واحدة؛
إسناد وظيفة الرقابة للوكالات القطاعية، ومنحها صلاحيات الضبط والتتبع، بدل الاكتفاء بدورها التنظيمي.
غير أن هذا التحول لا يمكن اعتباره “قفزة تشريعية آمنة” ما لم يُؤطر بجهاز قانوني رقابي مرن، ومُحكم في الوقت ذاته، لأن تيسير الاستثمار لا يجب أن يكون على حساب الشفافية، ولا على حساب المصلحة العليا للدولة.
رابعًا : التوصيات التشريعية: نحو ضمان التوازن بين الانفتاح والحماية السيادية
من خلال التحليل السابق، تتضح مجموعة من النقاط الحرجة التي تستدعي إدراج ضمانات صريحة داخل نص المشروع، لتأمين غاياته دون الوقوع في فخ التفريط أو التسيب:
استعادة مبدأ التصنيف السيادي للمواد الحساسة
المشكلة: إلغاء التصنيف الاستراتيجي دون معايير واضحة.
الحل: التنصيص على إعداد قائمة دورية تصدر كل سنتين بالمواد الإستراتيجية، بناءً على معايير فنية واقتصادية، مع عرضها على البرلمان للمصادقة.
ضبط آليات الرهن والتنازل
المشكلة: تحويل التراخيص إلى أدوات تجارية قد يُستغل للمضاربة.
الحل:
اشتراط نسبة إنجاز فعلي لا تقل عن 30% من البرنامج الاستثماري قبل السماح بالتنازل؛
منع التنازل لفائدة شركات غير مؤهلة تقنيًا أو ماليًا؛
فرض إشراف الوكالة المنجمية على كل عمليات الرهن أو التنازل.
توسيع صلاحيات الرقابة البرلمانية
المشكلة: ضعف آليات المتابعة البرلمانية في القطاع
الحل:
فرض عرض تقارير سنوية من الوكالات المنجمية على لجنة برلمانية مختصة؛
إقرار آلية رقابة استباقية على رخص المشاريع الكبرى (من حيث المساحة أو الكلفة).
إنشاء هيئة وطنية مستقلة للرقابة البيئية المنجمية
المشكلة: غياب جهة مستقلة تتابع الآثار البيئية خارج الإدارة المنجمية ذاتها.
الحل:
إنشاء هيئة وطنية مستقلة تتكون من قضاة إداريين، خبراء جامعيين، ممثلين عن المجتمع المدني، ونقابات مهنية؛
منحها صلاحية تجميد المشروع في حال ثبوت إخلال جسيم بالمعايير البيئية.
فرض التزامات اجتماعية محلية على المستثمرين
المشكلة: غياب التزام واضح بتشغيل الموارد البشرية المحلية.
الحل:
إدراج نص صريح بفرض نسبة إلزامية لا تقل عن 30% من التوظيف المحلي؛
إلزام الشركات الأجنبية بتقديم خطة لنقل التكنولوجيا والتكوين ضمن ملفات طلب الرخصة.
خاتمة: “التشريع ليس أداة إدارية بل مسؤولية سيادية”
إن مشروع قانون النشاطات المنجمية الجديد لا يُعد مجرد إصلاح قطاعي، بل تجسيد عملي لاختيارات الدولة في مرحلة التحول الاقتصادي الوطني، فبين مقتضيات الانفتاح على الاستثمار، وضمانات السيادة على الموارد، يتعين على البرلمان كمؤسسة تشريعية أن يكون حارسًا أمينًا على التوازن بين هذين القطبين.
إن التحرر من البيروقراطية، وتسهيل حركة الاستثمار، هي مطالب مشروعة ومطلوبة في جزائر اليوم، لكن يجب ألا يكون ذلك مدخلًا لفقدان السيطرة على الثروات الوطنية، أو لتهميش الرقابة التشريعية والمجتمعية.
وعليه، فإن مسؤولية المشرعين لا تقتصر على التصويت على النصوص، بل تتجسد في إعادة تشكيل العلاقة بين القانون والثروة، بين الدولة والمستثمر، بين الحاضر والمستقبل.
فلنُشرّع بعقل اقتصادي، ولكن أيضًا بقلب وطني، وببصيرة سيادية، لأن الثروات المنجمية ليست ملكًا للجيل الحالي فقط، بل أمانة في أعناقنا للأجيال القادمة.
والله من وراء القصد.
باحث في القانون العام والشؤون البرلمانية
عضو مخبر القانون والعمران والبيئة
كلية الحقوق. جامعة باجي مختار عنابة
الايميل: [email protected]
الجزائر العاصمة