الأستاذ خالد شبلي: آفاق التهجير في غزة: التحدي بين المخطط الإسرائيلي وحركة المقاومة الشعبية

الأستاذ خالد شبلي
تحت ضوء الأزمات الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة، بات الحديث عن “خطة تهجير غزة” يشكل أحد أبرز المواضيع المثيرة للجدل في الساحة السياسية والإعلامية، تتجاوز هذه النقاشات الحديث عن تهجير قسري للمواطنين الفلسطينيين في غزة إلى مخططات استراتيجية تسعى لإعادة تشكيل الواقع الجغرافي والديموغرافي في المنطقة، بما يخدم أهداف الصهاينة ويحاصر حقوق الفلسطينيين، هذه المخططات تستهدف تصفية القضية الفلسطينية تدريجياً، عبر فرض واقع جديد يقلل من حجم الوجود الفلسطيني ويشوه هوية الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة.
أولا: التهجير الخشن: حرب منهجية على الوجود الفلسطيني
إن التهجير القسري في غزة لا يقتصر على أساليب الإجلاء العنيف والتهجير الجماعي كما حدث في فترات سابقة، بل يُنفذ ضمن سياق طويل المدى يعتمد على سياسة “التهجير الخشن” التي أشار إليها البروفيسور وليد عبد الحي؛ هذه السياسة تعتمد على استخدام أداة الحرب الممنهجة عبر القصف الجوي والمدفعي، وفرض حصار شامل يعيق وصول أبسط مقومات الحياة من الغذاء، الماء، والدواء، هذه الممارسات تهدف إلى تحطيم الإرادة الشعبية الفلسطينية وفرض ظروف حياتية قاسية تُجبر السكان على مغادرة أراضيهم طوعًا، تحت تهديد الموت أو الاستمرار في العيش في معاناة لا تُحتمل.
هذه السياسة الصهيونية تندرج ضمن استراتيجية أكبر تسعى إلى تقويض قدرة الفلسطينيين على البقاء في غزة، عملية تدمير البنية التحتية الحيوية، مثل المدارس والمستشفيات، بالإضافة إلى استهداف الأحياء السكنية، تعمل على إحداث أزمة إنسانية مستمرة تهدف إلى خلق بيئة لا يمكن للسكان العيش فيها، مما يدفعهم للهجرة أو القبول بالواقع المرير.
ثانيا: التهجير الناعم: الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية
من جانب آخر، يأتي ما يُعرف بالـ”تهجير الناعم”، الذي يتخذ طابعًا أكثر تدريجيًا وتخطيطًا، كما يوضح ذلك البروفيسور وليد عبد الحي، في أبحاثه، حيث أن هذه السياسات لا تقتصر على استخدام القوة العسكرية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى محاولة إقناع الفلسطينيين بمغادرة قطاع غزة عبر سبل اقتصادية وسياسية، مثل الترويج لفرص العمل في دول الخليج أو تقديم تسهيلات في الحصول على إقامة في دول غربية.
تهدف هذه الاستراتيجيات إلى تشجيع الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم تحت غطاء تحسين أوضاعهم الاقتصادية، مما يؤدي إلى تفريغ القطاع من سكانه تدريجيًا. في المحصلة، سيكون الفلسطينيون في غزة أقلية مشتتة في دول اللجوء، بعيدًا عن حقهم في العودة إلى ديارهم الأصلية.
تجسد هذه السياسات مظهرًا آخر من مظهر التهجير الذي لا يعتمد على العنف المباشر، بل على تكتيك الاستنزاف البطيء، لا يكمن الخطر هنا في الرحيل الطوعي للمواطنين الفلسطينيين، بل في تبني سياسات اقتصادية تجعل الحياة في غزة غير قابلة للاستمرار، بالتالي، تصبح الهجرة بمثابة السبيل الوحيد لمستقبل أفضل، لكن هذا “المستقبل” في الواقع لا يرقى إلى مستوى الحق في العودة أو الحياة الكريمة في الأرض الفلسطينية.
ثالثا: الاستيطان: تغيير التركيبة الديموغرافية بطرق ممنهجة
يهدف الصهاينة من خلال سياساتهم الاستيطانية إلى إحداث تغيير ديموغرافي في قطاع غزة والضفة الغربية على حد سواء، تسعى هذه السياسة إلى تقليص الوجود الفلسطيني في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية لصالح زيادة الاستيطان الصهيوني، بما يعزز من فرض السيطرة الكاملة على الأراضي المحتلة.
وفي هذا الإطار، تُعتبر محاولات تهجير الفلسطينيين جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى القضاء على الوجود الفلسطيني وتصفية قضية العودة، بما يتماشى مع رؤية الصهاينة لإعادة تشكيل الخارطة السكانية للمنطقة.
تاريخيًا، لم تكن هذه المخططات جديدة، فقد بدأت محاولات التهجير القسري منذ النكبة في عام 1948، حيث تعرض العديد من الفلسطينيين للتهجير القسري من أراضيهم عبر القتل، التهديد، والترهيب.
ومع مرور الوقت، تطورت هذه السياسات لتأخذ شكلًا أكثر تعقيدًا، يعتمد على الحرب النفسية، والمساعدات الاقتصادية التي تُستخدم كأداة للضغط على الفلسطينيين بغية دفعهم للهجرة أو قبول الأمر الواقع.
رابعا: المجتمع الدولي: ضعف الاستجابة والمشاركة في الحلول
في ضوء هذه السياسات المتسارعة، يبقى السؤال الأهم: ما هو دور المجتمع الدولي في مواجهة هذه المخططات التصفوية؟ في الوقت الذي يدين فيه المجتمع الدولي بشكل عام انتهاكات الاحتلال الصهيوني، فإن الردود العملية لا تزال محدودة للغاية؛ فالأمم المتحدة، رغم إصداراتها المتعددة التي تدين الاستيطان والتوسع الاستعماري في الأراضي الفلسطينية، لم تُترجم هذه البيانات إلى خطوات عملية لوقف هذه الممارسات.
المجتمع الدولي فشل حتى الآن في اتخاذ إجراءات رادعة ضد الاحتلال، وتستمر بعض القوى الكبرى في تقديم دعم غير مشروط للصهاينة، مما يساهم في تعزيز مواقفهم الاستعمارية؛ من هنا، تبرز الحاجة إلى تفعيل دور المنظمات الدولية الإنسانية، مثل وكالة الأونروا، ودعم قرارات الأمم المتحدة التي تطالب بوقف التوسع الاستيطاني وتهجير الفلسطينيين.
خامسا: خيارات الفلسطينيين: المقاومة المستمرة والتمسك بالهوية
في مواجهة هذه السياسات الظالمة، يظل الشعب الفلسطيني في غزة مصممًا على مقاومة محاولات التهجير؛ تتجسد هذه المقاومة في صمود الشعب الفلسطيني داخل القطاع، وفي صموده في مخيمات اللجوء، حيث يستمر في المطالبة بحقه في العودة إلى أراضيه، المقاومة الفلسطينية ليست مجرد مقاومة عسكرية؛ إنها مقاومة شعبية وثقافية وسياسية، تتضمن الدفاع عن الهوية الفلسطينية، والتأكيد على الحق في العودة، وعلى الحق في تقرير المصير.
إن الفلسطينيين في غزة، ومع كل ما يعانونه من آلام وأزمات، يظلون في قلب القضية الفلسطينية، مقاومتهم في مواجهة محاولات التهجير هي استمرار لمقاومة الاحتلال التي بدأت منذ النكبة؛ هذه المقاومة هي رهان الفلسطينيين على حقهم في الأرض والحرية، وهي التحدي الأكبر لأي محاولة لتصفية قضيتهم.
الخاتمة: المستقبل الفلسطيني بين الأمل والتحديات
خطة تهجير غزة، سواء كانت بأسلوب “خشن” أو “ناعم”، تعد جزءًا من مشروع طويل الأمد يستهدف تصفية القضية الفلسطينية، لكن مقاومة الشعب الفلسطيني المستمرة، والتضامن الدولي مع قضيته، يبقيان الأمل في قلب هذه المعركة، المستقبل الفلسطيني لا يمكن أن يُحدد عبر مخططات الصهاينة وحده، بل عبر إرادة الشعب الفلسطيني في الحفاظ على هويته، حقوقه، ووجوده في أرضه. إن الصمود الفلسطيني في غزة هو الفصل الأخير في معركة طويلة ضد التهجير، وستظل القضية الفلسطينية حية في قلب كل من يؤمن بحق الفلسطينيين في العودة والحرية.
باحث في القانون العام
عضو مخبر القانون والعمران والبيئة
كلية الحقوق. جامعة باجي مختار عنابة
الايميل: [email protected]