حميد عقبي: عمل “الرضيع” (غزة) للفنان الأمريكي براين كارلسون

حميد عقبي: عمل “الرضيع” (غزة) للفنان الأمريكي براين كارلسون

 

 

حميد عقبي

في لوحة “الرضيع”، يرسم الفنان التشكيلي الأمريكي براين كارلسون مشهداً يهيمن الصمت فيه، ويعلو فوق أي صراخ أو دخان. لا نرى مشاهد قتالية، ولا أنقاضاً، ولا جنوداً معتدين، لكننا نكون في مواجهة مع النتيجة النهائية لكل حرب: جسد صغير، مسجّى، مغسولاً بالألم، ومغلفًا بالحنان الذي لم يحمِه من الموت.
لنتأمل هذه اللوحة:

التكوين البصري: احتواء المشهد في مساحة مغلقة

الرضيع موضوع بدقة في كرسي أو سرير صغير، تحيط به أقمشة مطرّزة وزاهية، وكأنها محاولات أخيرة لتزيين لحظة الفجيعة. الكرسي نفسه محدود ويكاد يكون مغلقًا بصريًا، مما يكرّس شعور الأسر واللا مفر. فحتى في الموت، لا توجد للطفل فسحة مفتوحة، لا نجاة، ولم تشفع له طفولته البريئة.
براين يوظف هنا ذكاءً بصريًا خفيًا: الطفولة – التي كان يُفترض أن تكون بهجة حياة – محاصرة بين حدود المكان، كما كانت محاصرة في حدود المأساة.

اللون كأداة مقاومة الصمت

الألوان هنا ذات دلالات مزدوجة: الأبيض والأزرق يمنحان شعورًا بالسكينة، ولكن خلفهما يكمن الفراغ المأساوي، والقليل من الأزرق. بقعة الدم الصغيرة على جبين الطفل وكأنها تاج من الألم، دمٌ قليل يكفي ليحكي كل شيء، دون مبالغة أو دموية زائدة.
اللون الأصفر الذهبي في الزاوية الأمامية قد يبدو غريباً في المشهد، لكنه يمنح اللوحة مسحة من التوتر، كأن الحياة لا تزال تتسرّب من أطراف اللوحة رغم استقرار الموت في مركزها.
هذه القطع من الأصفر الذهبي – التي تُستخدم كسترات تقي من الحريق – هنا تلف بها الأجساد حتى لا تتعفن، ففي غزة والمدن الموبوءة بالحرب، الموت للجميع وما بعد الموت أكثر صعوبة، فالأرض تحترق بالكامل، فلا قبور ولا ثلاجات لحفظ جثامين الموتى. حياة وموت كثيري التعقيد، وكل حكاية تعادل أقوى التراجيديات.

الرضيع: مركز الجاذبية العاطفية

ملامح الرضيع مطمئنة في نومها الأزلي، لكنها تترك أثرًا بليغًا في نفوسنا لا يُمحى من الذاكرة. الطفل لا يبدو مشوهًا أو صارخًا، بل يبدو نائماً كأنه لا يعرف أن العالم الذي استقبله سرعان ما خان وجوده وتخلى عنه.
هذه البراءة المطلقة هي ما تجعل من المشهد مؤلمًا، فالموت هنا ليس نهاية بقدر ما هو افتضاح لعالم انهار أمام أعيننا.

الغياب كحضور طاغٍ

ما يجعل اللوحة عظيمة هو ما لا نراه:
لا نرى أمًّا تبكي، لا نرى مشيعين أو جنازة، فقط الفراغ.
غياب العائلة والناس يترك الطفل وحده في مشهد كوني، كأن براين يقول لنا: هذا الطفل ينتمي للجميع، وهو يُحمِّل الجميع المسؤولية.

رمزية الفراشات

في أعلى الغطاء الأبيض، نلمح رسمًا لفراشتين صغيرتين. رمزية الفراشات متعددة في الثقافة الفنية: تمثل الروح، الانتقال، والتحول من الحياة إلى عالم آخر والحياة القصيرة.
وجودهما هنا تلميح شعري رفيع من الفنان إلى انتقال روح هذا الرضيع إلى بعد آخر.
في كل لوحة، يغرس براين كارلسون القداسة في شخصياته الضعيفة والرقيقة، والرضيع هنا يحيلنا إلى يسوع، وإلى بوذا، وإلى موسى عندما لفته أمه وقذفته في اليم، إلى كل ما في الكون من قداسة.
التناصات هنا متعددة مع حكايات وأساطير وكتب مقدسة، وبراين لا يرسم أيديولوجيا أو فئة، بل ينسج قصائده التي تتغنى بالطهارة والبراءة الإنسانية.

الفجوة العاطفية مع المشاهد

براين كارلسون لا يقدم حكايا مكتملة في أعماله؛ في كل عمل يقدم لحظة مقتطعة من زمن مفتوح.
لا يقول لنا من هذا الطفل، ولا كيف مات، ولا من فقده.
هو فقط يقدم لنا وجهاً نائماً نومًا أبديًا، ويتركنا نغرق في محيط من الأسئلة والمرارة المفجعة.
بهذا، تتجاوز اللوحة حدود المأساة الفلسطينية لتصبح تأملاً عالميًا في معنى الحياة، والبراءة، والفقد، والخذلان الجماعي.

براين كارلسون، الفنان الأمريكي الملتزم، يرسم مما نشاهده جميعًا من الصور المتدفقة مع كل نشرة أخبار عبر مئات القنوات، أو يستلهم لوحاته مما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي. وهو لا يرسم من أجل الجمال الظاهري، بل يناضل من أجل الحق الإنساني العميق. يؤمن أن الحياة حق لكل البشر، مهما اختلفت ألوانهم أو معتقداتهم أو أوطانهم. في رؤيته النقدية، لا يتوانى عن فضح النظام الدولي الجديد الذي يدعم الحروب، ويغذي الصراعات، ويعيد إنتاج العبودية في قوالب معاصرة ناعمة.
أعمال براين تستحق أكثر من قراءة وقد انتجت أكثر من 14 مداخلة نقدية فيديو مصورة وهذا رابط  على قناتنا يوتيوب:

ختامًا:
براين يحذرنا من عالم تتبلد فيه الحواس، وتموت فيه الشفقة، وتغيب الرحمة. ومع ذلك، لا يفقد إيمانه بأن الفن، وإن كان عاجزًا عن وقف الحروب، إلا أنه قادر على ترميم الأرواح المنكسرة، وعلى إعادة إشعال شعلة الأمل في عالم يزداد ظلامًا ووحشية.