د. نصر سيوب: انقطاع الأجيال من خلال السرد.. تحليل للقصة القصيرة “غافل” للدكتورة فاطمة الديبي.

قراءة وتحليل د. نصر سيوب
“غافل” :
كانت الشمس تتهادى بأشعتها الذهبية عبر ستائر منزل “عهد”، ترسم خطوطاً من نور على أرضية الصالون الصامتة. الهدوء الذي كان يلف أركان البيت، أصبح الآن محملاً بتوتر خفي يسبق عاصفة الامتحانات النهائية. الكتب المكدسة على طاولة الدراسة في غرفة “غافل” كانت تشبه جبالاً من الأحلام المؤجلة، تنتظر أن تُروى، بينما ردهات البيت كانت تتشرب أصداءً خافتة لاهتزازات الهاتف قادمة من عمق غرفته، إيقاعاً متواصلاً يكسر حاجز الصمت ويُعلن عن عالم آخر، عالم افتراضي يجذب الابن بعيداً عن سطور الواقع. كانت عهد تتأمل هذه المشاهد بعينين تقرآن ما وراء الجدران ترى كيف أن كل دقيقة تمر، هي خسارة لا تُعوّض في سباق الزمن نحو المستقبل. كان صوتها الحنون، الذي اعتاد أن يملأ البيت بالدفء، يتحول أحياناً إلى نبرة حادة تُخفي وراءها قلقاً عميقاً، قلقاً على حلم كانت ترسمه لابنها منذ سنوات طويلة، حلم مهدد الآن بضجيج شاشة صغيرة وبقايا فناجين قهوة باردة.
جلست عهد تتأمل غافل وهو يتصفح هاتفه بتراخٍ، بينما أكوام من الأوراق الخاصة بالدروس مبعثرة حوله. تنهدت بعمق، وكأنها تحمل على عاتقها تاريخاً من الكفاح. “هل تعلم يا غافل، أن البكالوريا في زماننا كانت قصة أخرى تماماً؟” بدأت عهد بصوت يحمل نبرة حنين، “لم تكن هناك هواتف تسرق الأوقات، ولا دروس خصوصية تأتي إلينا في البيت”.
“أتذكر يوم امتحان البكالوريا الخاص بي وكأنه حدث بالأمس”، تابعت عهد، وعيناها تلمعان بذكرى الماضي : “لم يكن لدينا رفاهية الأساتذة الذين يأتون إلى البيت كل يوم، يملأون فراغات التقصير ويُعيدون شرح ما فات، كنا نعتمد على أنفسنا بالكامل، وعلى ما نتحصله في المدرسة، ومن كان فاشلا في الدراسة معنا كان يذهب إلى الخصوصي. الكتاب كان صديقنا الوحيد، نُقلّب صفحاته حتى تتآكل من كثرة المراجعة، كنا نسهر الليالي الطوال، أحياناً تحت ضوء خافت، لا نملك إلا إصرارنا وعزيمتنا”.
توقفت عهد للحظة، ابتسامة خافتة ترتسم على شفتيها : “أتذكر أنا وصديقاتي، كنا نلتقي كل يوم بعد المدرسة، أحياناً نذهب إلى الحديقة المجاورة لثانوية الحي الصناعي، نفترش الأرض تحت ظلال الأشجار ونغرق في المذاكرة. نتبادل الشرح ونحل التمارين، وكل واحدة منا تشد أزر الأخرى. وبعد الظهر، كنا نذهب إلى مكان زراعي بجوار حينا، كنا نسميه (الحْصِيدَةْ)، كان مكاناً ساحراً وقت الربيع، تكتسي الأرض فيه بالخضرة اليانعة. كان يتميز بالهواء النقي، وكأننا لسنا بالمدينة، وكل من كان يذهب إليه كان يشعر وكأنه في البادية. حتى النساء كن يأخذن أولادهن للعب والاستمتاع بمنظره الجميل وزهوره، خاصة زهرة (حْلَّالَة) المنتشرة فيه بكثرة.. مكان بسيط لكنه كان يحسسنا بالأمن والأمان ويمنحنا الجو الدافئ، صوت القطار وهو يمر بجواره كان يضفي لحناً غريباً على ساعات الدراسة الطويلة وكأنه يشاركنا همومنا وأحلامنا.. كانت “الحصيدة” تجمعنا كلنا، فقد كانت نسوة الحي كل واحدة تحمل ما لذّ وطاب من الخيرات؛ سلال مملوءة بشتى أنواع الحلويات المنزلية : كعك، “غْريبة” معطرة بماء الزهر، و”فقّاص” باللوز والزبيب، والشاي الساخن تفوح منه رائحة النعناع الزكية تملأ المكان، كنا نحس بأمان وهم معنا.
“وفي الليل”، استطردت عهد، وابتسامتها اتسعت، وعلت نبرة صوتها قليلاً، وكأنها تعيش تلك اللحظات من جديد : “كان المشهد يتغير تماماً، كنا نرى الذكور والإناث من الحي يتجمعون، بعضهم يجلس على الأرصفة، وبعضهم الآخر يقف تحت إنارة شارع محمد الخامس الخافتة، أو على حشائش الحديقة المجاورة للعمالة. كانت هناك مجموعات تتبادل الشرح، كلّ منا يشرح لصاحبه ما فهمه، ويساعد من تعثر في نقطة ما. كانت روح التعاون هي السائدة، وكأننا إخوة نتشارك نفس المصير. لم يكن هناك ما يشتت انتباهنا سوى صوت زقزقة العصافير، أو حفيف أوراق الأشجار. كانت تلك الأيام، يا غافل، أياماً لا تُنسى، أياماً صنعت فينا العزيمة والإصرار”.
نظرت عهد إلى غافل الذي كان لا يزال ينقر على هاتفه، ثم إلى أكوام أوراق الدروس الخصوصية التي دفع فيها والداه الغالي والنفيس : “الآن، كل شيء مختلف”، قالت بنبرة لا تخلو من الألم : “يومك يبدأ بأستاذة الرياضيات صباحاً، ثم حصة الفيزياء بعد الظهر، وكل هذا هنا في البيت لتركز. كل درس، كل مادة، لها أستاذ خاص يأتي ليشرحها لك. ومع ذلك، أراك غارقاً في هاتفك، وكأن الأمر لا يعنيك!”.
“أرى هذه الأوراق تتكدس، وهؤلاء الأساتذة يبذلون جهداً، وأنت لا تزال تصر على قضاء المساء في المقهى المعتاد مع أصدقائك، بحجة المراجعة!”.. أضافت عهد، وارتفعت نبرة صوتها قليلًا : “المقهى يا بني، هو مكان للثرثرة وتبادل النكات، لا للتحصيل العلمي الجاد، إنها مضيعة للوقت وهدر للمال، بعد كل هذه الدروس التي تتلقاها يوميّاً. كيف يمكن لك أن تركز على مستقبلك، بينما عقلك وقلبك معلقان بهذا العالم الافتراضي ورُفقة المقهى؟”،
“أعلم أن الزمن قد تغير، وأن الأدوات أصبحت مختلفة”.. اختتمت عهد حديثها، محاولة ضبط انفعالها : “لكن جوهر النجاح لم يتغير، هو يتطلب التركيز، الجهد، والتضحية. هذه الهواتف، وهذه المقاهي، هي مجرد مُلهيات تستنزف طاقتك وأموالك. استغل كل هذه الفرص المتاحة لك، كل هذه الدروس الخصوصية التي لم تكن موجودة في زماننا، ودع عنك كل ما يشتت انتباهك. المستقبل ينتظرك، وهو يستحق منك كل هذا الجهد، وكل هذا التركيز. فهل يرتفع صوت “الحْصِيدَة” في ذاكرتك، أم سيظل صوت الشاشة هو الأعلى في عالمك يا غافل؟”.
*****************
ــ مقدمة :
تقدم قصة “غافل”للدكتورة فاطمة الديبي نصّاً أدبيّاً جميلاً مليئاً بالدلالات، يتجاوز كونه مجرد حكايةٍ أسريةٍ بسيطةٍ ليصبح تحليلاً سوسيولوجيّاً ونفسيّاً وفنيّاً عميقاً لأزمةِ العصرِ. تتضافر فيه عتبات النص ودلالته اللغوية وأساليبه السردية لتشكل رؤيةً نقديةً حادةً لواقعٍ معاصرٍ، تتآكل فيه الروابط وتُفْقَدُ القيم في ظل طُغيان التقنيةِ وغفلةِ الأجيال.
ــ في أحضان القصة :
1 ــ دراسة العنوان :
العنوان عبارة عن اسم عَلَم، وهو مبتدأ مرفوع، والخبر متن القصة.
و”غافِلٌ” جمْعُه : غافِلون وغُفَّل وغُفول، وهو اسمُ فاعِلٍ من فِعْل “غَفَلَ”/ غَفَلَ عن/ غَفَلَ مِن.. وغَافِلٌ عَنْ أَمْرِهِ : سَاهٍ، مُهْمِلٌ، وغَفَلَ عن الشيء : سَهَا من قِلَّة التحفُّظ والتيقُّظ، وغَفَلَ الشَّيْءَ: تركه إهمالاً من غير نِسْيانٍ.
قال الشاعر ابن شهاب :
تغافل ولا تغفل فما ساد غافل
وكن فطناً مستيقظاً متغافلا
وقال جبران خليل جبران :
تغافل منك الرأي طرفة مقلة
فخولستها والدهر ليس بغافل
وقال جرير :
فإنْ غفلَ الراعي الذي نامَ بالحمى
فإنَّ بحجرِ راعياً غيرَ غافلِ
ومن الناحية الدلالية فالعنوان يُشكل نقطة الانطلاق في فهم النص، وهو اختيارٌ ذكيٌّ وموفقٌ ومقصودٌ وليس مصادفةً ولا اعتباطاً، بل هو تأكيدٌ على الموقف النقدي للكاتبة من هذا النمط السلوكي الذي تُلاحظه في الواقع المعاصر انطلاقا من ابنها. وبالتالي فهو ليس مجرد تسمية للشخصية الرئيسية، بل هو صفة محورية تجسّد الحالة الوجوديّة للابن، وتكثّف الدلالة الرمزيّة للقصة بأكملها، بحيث تشير كلمة “غافلٌ” إلى حالة عدم الانتباه، والإهمال، أو اللاوعي بالمسؤوليات. وهذه الدلالة تنطبق تماما على تصرفات الابن، الذي يبدو غارقا في عالمه الافتراضي، غير مدرك لخطورة الموقف (الامتحانات النهائية)، ولا مكترث بجهود والدته وتوقعاتها. ويتجاوز الاسم كونه صفةً شخصيّةً ليصبح رمزاً لجيلٍ بأكمله، يعيش حالة من الغفلة الجماعية عن القيم التقليدية للكدّ والاجتهاد، وعن أهمية التركيز والتضحية في سبيل المستقبل، متأثرا بإلهاءات العصر الرقمي. فهو غافلٌ عن قيمة الوقت، وعن عمق تضحيات الأهل، وعن جوهر النجاح الذي لا تتبدل شروطه. والعنوان بهذا يلفت انتباه وفضول القارئ حول سبب تسمية الشخصية بهذه الصفة، ويدفعه للبحث عن تجليات هذه الغفلة داخل السرد، خاصة وأن التسمية غير دارجة في المجتمع المغربي خاصة.
2 ــ الأحداث :
تتناول قصة “غافل” قلق الأم “عهد” تجاه إهمال ابنها “غافل” لدراسته مع اقتراب الامتحانات، متأثرا بعالمه الافتراضي (الهاتف) ورُفقة المقاهي. فتستحضر “عهد” ماضيها المليء بالجد والاجتهاد والتعاون في أماكن مثل “الحصيدة” والحدائق، مقارنةً إياه بواقع ابنها الذي يتمتع بفرص تعليمية أفضل (دروس خصوصية) لكنه يهدرها. وتنهي “عهد” حديثها بسؤال مؤثر لابنها، مؤكدة أن جوهر النجاح يكمن في التركيز والجهد لا في الملهيات الرقمية، وتترك السؤال مُعلَّقا : هل سيستفيق “غافل” على صوت الماضي أم سيبقى صوت الشاشة هو الأعلى في عالمه؟
3 ــ الشخصيات :
ــ عهْد : الأم، هي قلب القصة النابض وضميرها الحي، تُمثل جيل الأمهات الكادحات، الحاملات لتاريخ من الكفاح، والمتمسكات بالقيم الأصيلة للجد والاجتهاد والمثابرة بعيدا عن أي ملهيات. إنها الوصي على حُلم المستقبل الذي رسمته لابنها. وتُقدمها الكاتبة كشخصية حكيمة، وعميقة، وقلقة، ومفعمة بالحنين.
وهي الراوي والواعظ الرئيسي في القصة، فخطابها الحواري الطويل يعكس محاولتها اليائسة لإيقاظ ابنها، ويُسلط الضوء على عمق الهوة بين جيلين.
ــ غافل : الابن، لا يُمثل نفسه فقط، بل هو رمز لجيل يُواجه تحديات جديدة من التشتت والإلهاء الرقمي، وربما الافتقار إلى الحافز الداخلي الذي كان سائدا في الأجيال السابقة. وله نصيب من اسمه بحيث أن اسمه هو صفته الجوهرية. والكاتبة تقدمه كشخصية سلبية، خاملة، ومُتلقية في الظاهر. وتصرفاته (يتصفح بتراخٍ، ينقر على هاتفه، يصر على قضاء المساء في المقهى) تعبر عن حالة من اللامبالاة والتأجيل. وقد ركزت الكاتبة على غيابه الصوتي في الحوار، بحيث أنه لا يردّ على والدته، وهذا ليس تقصيرا من الكاتبة، بل هو تعمُّد فنيّ بليغ، يجسد القطيعة التواصلية والعمق الفعلي للغفلة التي يعيشها. فهو حاضرٌ جسديّاً لكنه غائبٌ ذهنيّاً ووجدانيّاً، وكأنه يعيش في فقاعة خاصة به، وصمته يضخّم صوت “عهد” ويبرز يأسها.
4 ــ الزمان والمكان :
١ ــ الزمان : تدور أحداث القصة في الزمن المعاصر حيث الاستعدادات على قدم وساق لامتحانات البكالوريا مع طغيان الملهيات التكنولوجية المتمثلة في الهواتف. والزمن هنا هو زمن ضائع، يُهدَر في التصفح والتراخي، وهو ما تلمح إليه “عهد” بوضوح في قولها: “كل دقيقة تمر، هي خسارة لا تُعوّض في سباق الزمن نحو المستقبل”. وهناك الزمن الماضي المستحضَر عبر ذكريات “عهد” عن دراستها في الماضي، مما يعكس الفروق بين التحديات التي واجهتها وجيلها في شبابهم وتلك التي يواجهها ابنها “غافل” وكل جيله اليوم. وهذا الماضي ليس مجرد استعادة لذكريات شخصية، بل هو زمن نموذجي للكدّ والاجتهاد، يعقد مقارنة حادة مع الحاضر. فالأيام “التي لا تُنسى” والتي “صنعت فينا العزيمة والإصرار” تُمثل نموذجاً للنجاح المبني على الجهد والتضحية، لا على الرفاهية والتشتت. فالزمن هنا هو زمن الإنجاز والقيم.
٢ ــ المكان :
ــ المنزل : يبدأ المشهد داخل المنزل، وهو يمثل الحاضنة الأسرية التي يُفترض أن تكون مكانا للأمان والدفء والتفاهم، لكنها تتحول إلى ساحة للصراع الخفي والقطيعة بين جيلين . فـ” أرضية الصالون الصامتة”، و”غرفة غافل” بأصداء اهتزازات الهاتف القادمة من عمقها، كلها تعكس حالة من العزلة والتشتت داخل الكيان الأسري الواحد. فالمنزل بحد ذاته يُمثل المأوى الذي تتسلل إليه الملهيات التكنولوجية الخارجية.
ــ أماكن الماضي : تُقدم “عهد” أماكن محددة من ماضيها تحمل دلالات رمزية عميقة :
• الحديقة المجاورة لثانوية الحي الصناعي : هي مكان للدراسة الجماعية “تحت ظلال الأشجار”، يرمز إلى التعاون والبساطة.
• “الحْصِيدَة” : تُعتبر رمزا مركزيا للقيم المجتمعية الأصيلة. فهي ليست مجرد مكان زراعي، بل هي فضاء يجمع الأبناء والنسوة، ويمنحهم “الأمن والأمان والجو الدافئ”، ويُعزز “روح التعاون”. وصوت القطار فيها يُضفي عليها بُعدا زمنيا يشير إلى مرور الزمن وتغير العصور، مع الحفاظ على روح المكان الأصيل.
• الأرصفة وتحت إنارة شارع محمد الخامس/حديقة العمالة ليلا : تُظهر هذه الأماكن كيف كان الفضاء العام يُستغل للتعلم الجماعي، بعيدا عن المشتتات، حيث “روح التعاون هي السائدة”.
• المقهى : يُمثل هذا المكان نقيضا لأماكن الماضي. فهو “مكان للثرثرة وتبادل النكات، لا للتحصيل العلمي الجاد”. إنه رمز للمُلهي الخارجي الذي يستنزف الوقت والمال، ويعزز من غفلة “غافل”.
إن هذا التضاد بين الأماكن يُبرز بحدة الفجوة بين الأجيال، وتأثير البيئة المحيطة على السلوك والتحصيل.
5 ــ اللغة :
تستخدم الكاتبة لغة سلسة، رصينة ومُحكمة، غنية بالتفاصيل الحسية والعاطفية، تخدم الأغراض السردية والدلالية للقصة.
كما أن الاستعارات والتشبيهات تُثري النص وتعطيه أبعاداً أعمق، مثل : “كانت الشمس تتهادى بأشعتها الذهبية” حيث صورت الشمس بأشعتها كأنها امرأة فاتنة تتمايل وتتبختر في مشيتها. وكذا قولها : “عاصفة الامتحانات النهائية” حيث شبهت الامتحانات بالرياح العاصفة، وقولها : “الكتب المكدسة على الطاولة… تشبه جبالا من الأحلام المؤجلة”.
6 ــ أساليب السرد :
لقد اعتمدت الكاتبة في سردها على تقنية الرؤية من الخلف باستخدام ضمير الغائب، مما أتاح للقصة بُعدا موضوعيا، وأفاد بأن الكاتبة تمتلك معلومات أكثر عن الأحداث والشخصيات. وهذه التقنية توفر للكاتبة رؤية واسعة ومُهيمنة على الأحداث والشخصيات، مما يسمح لها بالإفصاح عن دواخل الشخصيات وأفكارها، حتى لو كانت غير واعية بها. لتنتقل الكاتبة إلى تقنية الرؤية المصاحبة باستخدام ضمير المتكلم على لسان الشخصية الرئيسية “عهد” عند محاورتها لابنها “غافل”، مما يمنح القارئ انطباعا مباشرا وشخصيا عن الأحداث والشخصية، وكأنه يشارك في هذه الأحداث، ويفقده حياده في متابعة الشخصية، وسرعان ما يشعر بأنه يشاركها في هذا الذي تتحدث عنه، وكأنه تماهى معها، وضمير المتكلم بات ضميره هو وليس ضمير الشخصية.
كما برعت الكاتبة في وصف ورسم المشاهد وتفاصيلها بدقة، مما يُضفي واقعية على النص ويجذب القارئ لعالم الشخصيات وأحداث القصة ويمنحها الإثارة والحيوية. فمِن “أشعتها الذهبية”، و”خطوط نور”، إلى “جبال من الأحلام المؤجلة”، و”أصداء خافتة لاهتزازات الهاتف”؛ هذا الوصف يُساهم في خلق الجو العام للقصة، من الهدوء المليء بالتوتر إلى تفاصيل أماكن الماضي.
واعتمدت الكاتبة أيضا على الأسلوب الحواري، وعلى الرغم من أنه حوار بين “عهد” و”غافل”، إلا أنه حوار من طرف واحد حيث كانت “عهد” هي المسيطرة على الحوار بينما الطرف الآخر “غافل” لديه دور محدود في التفاعل، متمثل في الاستماع وإن كان بلا مبالاة. هذا الأسلوب يُبرز حالة القطيعة التواصلية، ويُسلط الضوء على صوت الأم القَلِق، بالإضافة إلى التركيز على توصيل رسائلها، وإضفاء تأثيرٍ على ابنها المستمِع، وتقديم وجهة نظرها دون السماح بتبادل الأفكار.
خلال هذه التقنية مزجت الكاتبة فيها نمط الحوار الوصفي التحليلي، حيث أظهرت قدرة “عهد” على الوصف والتعمق أثناء التحدث عن ماضي استعداداتها وزميلاتها لامتحانات البكالوريا، وإبداء رأيها ووجهة نظرها.
7 ــ الرموز :
ــ غافل : تم التطرق لرمزيته ودلالته خلال دراسة العنوان.
ــ عهْد : العهد يعني الوعد المُلزم والحفاظ على الموروث. وهو يرمز لالتزام الأم بعهد التربية وتحقيق الأحلام التي رسمتها لابنها منذ طفولته. وهذه السمة تنعكس في حرصها على متابعة دراسته رغم غفلته.
لهذا فاسم “عهد” كـ”غافل” لم يكن اعتباطيا من الكاتبة وإنما مقصود لرمزيته، فهي اختارت عن سبق إصرار وترصد أسماءً ضديةً لتكثيف الصراع، فـ”عهد” تعبيرٌ عن التواصل عبر الزمن، و”غافل” تعبيرٌ عن الانقطاع عن الزمن، وهذا يَشي بأن القطيعة بدأت منذ التسمية.
ــ “الحصيدة” : تمثل رمزا للذكريات الجميلة والتعاون بين روادها من الطلبة في تحقيق أهدافهم.
ــ “الكتب المكدسة” : دلالة على الإهمال.
ــ الهاتف الذكي : رمز للتكنولوجيا الحديثة، ورغم فوائده إلا أن له سلبيات حيث يأخذ الشباب بعيدا عن أهدافهم الحقيقية فيصبح من الملهيات.
ــ القهوة الباردة : رمز للإهمال وضياع الفرص الساخنة.
ــ صوت القطار : كان موسيقى خلفية مشتركة أي لحنا جماعيا يسمعه كل أفراد “الحصيدة، دلالة على التواصل الاجتماعي. في مقابل صوت اهتزازات الهاتف في غرفة غافل، وهو ضجيج فردي، دلالة على العزلة المعاصرة.
ــ “صوت الحصيدة” مقابل “صوت الشاشة” : صراع وجودي بين عالمين.
8 ــ الرسائل :
تقدم الكاتبة من خلال هذه القصة مجموعة من الرسائل المهمة التي تُبرز رؤيتها النقدية الحادة وتَعكس همومها المجتمعية ؛ أهمها خطر التشتت الرقمي، حيث تحذر من تداعيات الإفراط في استخدام الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي على التركيز، والتحصيل العلمي، وحتى على الروابط الأسرية. فالهاتف ليس مجرد أداة، بل أصبح قوة تَشتت تستنزف الطاقات والأوقات. وتأكيدها على أهمية القيم الأصيلة في النجاح، فجوهر النجاح لا يزال يكمن في الجهد، والتركيز، والتضحية، والإصرار، بغض النظر عن تطور الأدوات والوسائل. والرفاهية المادية لا تُعوِّض غياب هذه القيم.
وتُسلط الكاتبة الضوء على الفجوة الكبيرة بين الأجيال في المفاهيم، والأولويات، وأساليب الحياة. فصمت “غافل” مقابل حديث “عهد” الصاخب يُجسد عمق هذه القطيعة وصعوبة التواصل الفعّال.
كما تؤكد على الحنين إلى الماضي ليس من منظور رومانسي بحْت، وإنما كنموذج لقيم اجتماعية وتعليمية قد تكون الأجيال الجديدة في أمس الحاجة إليها.
بالإضافة إلى تجسيد الكاتبة لقلق الآباء على مستقبل الأبناء من خلال قلق الأم “عهد” العميق على مستقبل ابنها “غافل” الغافل، الذي يبدو مهدداً باللامبالاة والإلهاءات، وهو قلق يتشاركه الكثير من الآباء في العصر الراهن.
ــ خاتمة :
تعتبر قصة “غافل” للدكتورة فاطمة الديبي عملا أدبيا رائدا، يبرز قدرتها على الغوص في أعماق القضايا المجتمعية المعاصرة ببراعة فنية عالية. إنها نص يتجاوز كونه حكاية عابرة ليصبح صرخة نقدية وفنية تثير تساؤلات جوهرية حول تربية الأجيال، وتأثير التكنولوجيا الرقمية، وقيم النجاح الحقيقي في عالم يزداد تعقيدا. فهي قصة ليست للقراءة فحسب، بل للتأمل العميق في حاضرنا ومستقبلنا، خاصة مع التساؤل الذي ختمت به الكاتبة قصتها : “فهل يرتفع صوت “الحْصِيدَة” في ذاكرتك، أم سيظل صوت الشاشة هو الأعلى في عالمك يا غافل؟”، فهو يُلخص جوهر الصراع، ويترك القصة مفتوحة، مُحفزا القارئ على التأمل والتفكير في الإجابة.