جريمة “جيت”: الفصل الأخير من تدهور الأخلاق في الجيش الإسرائيلي

جريمة “جيت”: الفصل الأخير من تدهور الأخلاق في الجيش الإسرائيلي

 

د. هاني الروسان
جريمة اغتيال الشاب الفلسطيني جاسم السدة، وهو نائم في سريره داخل منزله بقرية “جيت” بمحافظة قلقيلية، جاءت لتكشف عن فصل جديد في مسار الانهيار الأخلاقي الشامل لجيش الاحتلال الإسرائيلي. ففي كل المقاييس لا يمكن اعتبار إنها حادثة عشوائية أو خطأ فرديً، بل هي نتيجة وثمرة مباشرة لمناخ عسكري مسموم بسموم الحقد والعنصرية وفي بيئة عقائدية تآكلت فيها كل القيم الاخلاقية والانسانية وحتى المهنية، وتحول فيها الجندي إلى اداة عمياء لإرادة سياسية عنصرية قاتلة تسعى لإبادة ما تبقى من الشعب الفلسطيني.

وحتى صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية وصفت في افتتاحيتها ما جرى بأنه جريمة وقالت انها تعكس رغبة جامحة عبر عنها جنود الجيش الاسرائيلي لممارسة القتل في الضفة الغربية كما هو جار الان من ذبح للفلسطينين في غزة، وقالت أن قادتهم يسمحون لهم بذلك علنًا وصراحة أو بالصمت المريب حتى ان كل شيء في الضفة الغربية سيكونومباحا كما كان كل شيء مباحا في قطاع غزة. هذا الوصف من احدى كبريات الصحف الاسرائيلية لهذه الجريمة البشعة التي وقعت في نهاية الشهر الماضي، وما ينتظر الضفة الغربية في الايام القادمة، بحد ذاته يؤكد أن جيش الاحتلال لم يكن يوما مؤسسة عسكرية تنضبط للقواعد الاخلاقية التي تتحلى بها كل الجيوش في العالم، بل جهازًا ميدانيًا قاتلا يعمل كعصابة مسلّحة، خاصة عندما يقوم بعملية قتل كهذه التي جرت دون أي اشتباك أو تهديد أمني، بل أثناء نوم الضحية، ودون أن تُتّخذ بحق الجندي القاتل أي إجراءات عقابية، حيث لم يُفتح الى الان اي تحقيق ولو شكلي، ولم تُفتح حتى قضية لدى الشرطة العسكرية، وهو ما يجعل من الجريمة في اخلاقيات الجيش الاسرائيلي حدثًا يوميًا مألوفًا خاصة في نظر قيادات هذا الجيش. هذه الشهادة التي جاءت على لسان وصفحات “هآرتس” ليست جديدة او طارئة في سجل جرائم الجيش الاسرائيلي، ولكن اهميتها تأتي انها من قلب المؤسسة الدعائية الصهيونية، لا من ضحاياها، وهذا ما يمنحها ثقلاً إضافيًا في فضح طبيعة الجيش الإسرائيلي الذي فقد الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية في سياق دولي مشحون بصور مختلفة من الاستهجان والادانة لجرائم هذا الجيش الهجين.

ولكن جريمة الضفة الغربية هذه ليست سوى امتداد طبيعي لما جرى – ويجري – في غزة، حيث

يشن الجيش الإسرائيلي  حربًا لا مثيل لها في توحّشها منذ السابع من أكتوبر 2023. لقد دمرت آلة القتل الإسرائيلية أحياءً كاملة على رؤوس ساكنيها، وقتلت نحو 50 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، واستهدفت المستشفيات ومراكز الإيواء، وقصفت المدنيين أثناء وقوفهم في طوابير انتظار الغذاء. الصور من غزة لا تترك مجالًا للشك في اننا أمام حملة إبادة جماعية مدروسة ومعلنة، تُنفذ بدم بارد، وتستند إلى خطاب سياسي علني يدعو إلى “تطهير غزة” و”إفنائها”، كما صرّح العديد من وزراء حكومة نتنياهو علنًا.

هذه الجرائم، التي جرت أمام أعين العالم، لم تواجه بأي محاسبة داخلية جدية، بل قوبلت بالتبرير والتشجيع، ما عزّز قناعة المؤسسة العسكرية بأن الإفلات من العقاب بات قاعدة لا استثناء. ومن هذا السياق، جاء السلوك ذاته الذي نشهده في الضفة الغربية، حيث تُكرّر مشاهد القتل الميداني بلا سبب، وتُحوّل البيوت إلى مسارح إعدامات صامتة، والجنود إلى جلادين محميّين بقوانين صهيونية تحصّنهم من أي مساءلة.

ولكن ورغم ذلك فانه مع تزايد حجم هذه الانتهاكات وتكرارها، بات من المتعذر تجاهلها دوليًا. من هنا، شكّل قرار محكمة العدل الدولية في 26 جانفي 2024، القاضي بإجراءات فورية لمنع الإبادة في غزة، ثم قرار المحكمة الجنائية الدولية في مايو من العام نفسه، بطلب إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه ومسؤولين عسكريين آخرين، محطة محورية تؤكد مدى الانحطاط الاخلاقي الذي انحدر له الجيش الاسرائيلي. فتلك الأحكام لم تأت كاستجابة للضغوط السياسية فقط، بل جاءت كمحصلة لتراكم جرائم ممنهجة ارتكبها جيش لم يعد يعمل كقوة نظامية، بل كجهاز تطهير عرقي يمارس القتل الجماعي بثقة مطلقة في غياب اي شكل من اشكال الردع.

استاذ الاعلام في جامعة منوبة