زيد عيسى العتوم: حكاية قصيرة.. “العم عبدالله”!

المهندس زيد عيسى العتوم
من يُبحر بعينيه بين كلماتي ربما لن يراني الا إذا أغمضهما من قبل ومن بعد, ومن يتلمّس حواف قصتي العابرة وخطوط روحي المموّهة قد لا يسمع صوتاً يناديه غير ذلك الطفل العاشق لربعِ ساعةٍ من الزمن, حينها ستتوقف عدادات العمر وهي مشدوهة بالقرب من أوراق الأيام العتيقة, وخلفهما أقوام تركوا أكواماً من الدفء البريء والبرد المزمن, ألفُ تحية لمن قالوا بأننا شئنا أم أبينا سنبقى حبيسي طفولة رحلت وضحكات تبدد صداها, وأننا مجرد أخيلة تصنع أقماراً وتلعب أدواراً وتخطف أنظاراً وتعبر أنهاراً فوق مسرحٍ مفترضٍ لا يملكه غير القدر.
جلستُ مبتهجاً أرقب مَن حولي يتصافحون بالأحضان ويتحدثون بالقُبل, بينما الهواء العليل يداعب الرايات المرفرفة حولنا والضوء المُصفرّ يستجدي الشمس لفسحة أخرى من الوقت, الجميعُ هنا يترابطون بالأجداد ويحتفلون الآن بالأعياد, بالقرب مني كرسيّ أبيضٌ فارغٌ ينتظر من يمتطي صهوة جواده, حسبته غير مرئيٍّ لشغوره الغريب بين من يستكشفون الراحة ويبحثون عن الجلوس, وضعتُ يدي فوق رقعته حتى أعترف لعينيّ بخصلة صدقهما, وفجأة رأيت رجلاً لم تفلح الثمانون عاماً في تقصير قامته الطويلة والمهيبة ولو بقيدِ أنملة, في نظرات عينيه الواسعتين تاريخ يُروى وعِبَر تُحكى, وبلون بشرته السمراء وبتجاعيد وجهه الفاخرة عناوين أولها الوسامة وآخرها الدماثة, يُحدّق بغيره ليعرفهم بعد أن حلّ الليل ويحدّقون به طمعاً بسحره, تنفسنا سوية الصعداء عندما لمحنا بعضنا وتجاورت مواطن أرواحنا, اهتزّت يدي عندما عثرتُ على طراوة يد أبي الذي غيّبه الموت في خارطةِ راحةِ يده, وانتشت جوارحي عندما تزحلق خدّي على أنغامٍ وألحانٍ طال انتظارها عند خدّه, لم يهمني كوني أستنسخ ما افتقده وأغرق بما أتخيله فأنا في قمة الرضى والسعادة, أحسستُ بمحبة السماء وهي تدقّ بابي وتهديني رسالة تشبهني وتنعش ذاكرتي, وشممتُ عطراً أصيلاً ينقلني بكامل رغبتي فوق بساط الريح الى ذاتي حيث يسكن عبير أبي.
عزف العازفون وغنّى المطربون وتراقص الفتية قربنا فصَعُبَ عليّ محادثته دون التقرّب من أذنه الكبيرة ذات الفسيفساء المرصّع بالشامات المنمّقة, وعندما رأيتها جيداً شعرت بالوقوف أمام لوحة أعرفها وتعرفني وأحفظها وتحفظني, سألته عن أحواله فقال لي أنه بخير وسيغادر القرية في الصباح الباكر, ثم أخبرته بقلقي إن كانت نسمات البرد تزعجه فطمأنني أن كل شيء على ما يرام, أخرج سيجارة من جيبه ثم تلفّت حوله قبل إشعالها بقدّاحته الخجولة, سألني إن رأيت منفضةً قريبةً للسجائر يستطيع استعمالها, فانبرى جاره الآخر يستهجن حاجته للمنفضة بينما يجلس الجميع خارج مبنى العشيرة في ساحةٍ فسيحةٍ بإمكانه أن يلقي بها ما يريد ودون أيّ حرج, ابتسم له ثم استدار نحوي مكرراً طلبه فأحضرتُ له واحدة وأنا أقدّر تحضّره وحرصه على نظافة المكان وبروتوكولات الزمان, تعالت الأصواتُ وتعاظم الضجيجُ بالمسرّات, اقترب “أبي” بل اقترب ذلك الرجل في لحظةٍ تبادليةٍ وفلسفيةٍ أعرفها أنا ولا يعرفها أحد غيري, وشوشني بحروفٍ أوزانها تداعب خاطري بعد أن حدّق بشدّةٍ في ساعة يده, أخبرني برغبته للعودة الى منزله الريفيّ المحاط بأشجار “اللزّاب” والصنوبر الجميلة, أدركتُ أنه قد عقد العزم على المغادرة في تلك اللحظة, هممتُ بإحضار سيارتي الجاثمة على مقربة منّا فرفض ذلك متعللاً بمتعة المسير, استأذنته بمرافقته الى بيته مشياً فنهاني عن مطلبي حتى لا يُتعبني, لكنني أقسمتُ على ملازمته حتى لا أخسر روعة اللحظة إذا خرجتُ من ذلك المشهد البديع, سألتُ نفسي إن كانت ستودّع من يشبه أبي ومن يحمل دمَ أبي ومن سيقرّبني من أبي ومن سيُحيي لي أبي فغَضِبَت مني, شققنا طريقنا سوية كمن يلامس أمواج البحر في عتمة الليل, أو يلاطف أوتارَ قيثارةٍ في بستانٍ منبسطٍ من العشب الأخضر, وبعد كلّ دقيقةٍ يشدّ بيده على يدي ويقول لي:” يكفي الى هنا, سأكمل الطريق وحدي لقد أثقلت عليك”, لم يكن يعرف دعائي أن لا تنتهي تلك الرحلة حتى لو امتدّت الى نسمات الفجر المقبل علينا, كنت أتلذذ بطلبه وأتلذذ بقبوله أن أبقى معه لمزيدٍ من الوقت, وفي نهاية الطريق عرفتُ أن الحلم سينتهي وأن الصحوة قد بدأت تستأذن بالدخول, ودعته مُكرهاً وبدأتُ أبتعدُ بخطواتٍ أولها استرجاع تفاصيل تلك الربع ساعة في بانوراما العودة وحدي, لكنه أضاف لروايتي دقيقة أخرى حيث وضع يده اليمنى على كتفي وطبع بشفاهه قبلةً على وجهي المشتاق لملامسة أبي, افترقنا يا عمّي الغالي لكننا سنلتقي قريباً, أحبك يا أبي…..
الاردن