دول الغرب وتحديات المسؤولية الأخلاقية – تأليف: د. أحمد بطّاح

إنّ مما لا شك فيه أنّ الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة تضع جميع دول العالم – وإن بشكل متفاوت- أمام مسؤولياتها الأخلاقية، وحيث أنّ بعض الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا هي من الدول القوية والنافذة في العالم، فإنها تتحمّل مسؤولية أخلاقية خاصة، وإذا أضفنا إلى عاملي القوة والنفوذ ما تعلنه هذه الدول على الدوام من التزامها بالقانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان نجد أنها تتحمّل مسؤولية أكثر من غيرها، إنْ لم تكن المسؤولية الأكبر في هذا الموضوع. ولكي نضع النقاط على الحروف ونتبين مدى تجاهل هذه الدول المُشار إليها آنفاً لمسؤولياتها الأخلاقية فإننا لا بدّ أن نفصّل قليلاً على النحو الآتي:أولاً: فيما يتعلق بالولايات المتحدة:تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية أخلاقية خاصة فيما يجري في القطاع المنكوب من إبادة جماعية، لأنّها المزود الرئيسي (أكثر من 70%) لإسرائيل بكافة أنواع الأسلحة، ولأنها توفّر لها غطاءً سياسياً في كافة المحافل الدولية (كما حصل بالأمس حين كانت الوحيدة في معارضتها لقرار مجلس الأمن لوقف الحرب في غزة)، والواقع أنها لا تكتفي بذلك بل تلاحق محكمة الجنايات الدولية، لأنها عاقبت مجرمي الحرب الإسرائيليين، مثل “نتنياهو” ووزير دفاعه “جالانت”، بل وصل الأمر إلى حد أن تتآمر مع إسرائيل “لابتكار” آلية لتوزيع المساعدات الإنسانية على أهالي القطاع المجوّعين لا تتناسب على الإطلاق مع كرامة الإنسان وآدميته وذلك بشهادة كافة المنظمات الدولية (الأونروا، منظمة الصحة العالمية، اليونيسيف. أطباء بلا حدود…) التي رفضت المشاركة في مثل هذه الآلية غير الإنسانية!ثانياً: فيما يتعلق ببريطانيا:من المعروف تاريخياً أن المملكة المتحدة تتحمل مسؤولية أخلاقية خاصة بالنسبة لموضوع المأساة الفلسطينية، فهي التي أعطت اليهود وعد “بلفور” (من لا يملك لمن لا يستحق) في عام 1917، وهي التي كانت مُنتدبة على فلسطين، ومهدت بكل السبل لقيام إسرائيل على أنقاض كيان الشعب الفلسطيني، ولم تكتف بريطانيا بذلك بل شاركت إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عندما أممت قناة السويس في عام 1956، وقد استمرت بتزويدها بكافة أشكال الدعم من خلال الاتحاد الأوروبي (عندما كانت عضواً فيه) وخارجه، وإلى درجة أن رئيس وزرائها “ريشي سوناك” اصطحب معه في الطائرة كمية معينة من الذخائر، عندما جاء داعماً لإسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر!ثالثاً: فيما يتعلق بفرنسا:غني عن القول أنّ فرنسا لم تقّل دعماً لإسرائيل عن بقية الدول الغربية، ولكن إسهامها الأكبر في هذا المجال كان تمكين إسرائيل من صناعة السلاح النووي في ستينيات القرن الماضي، ومن المعروف الآن أن إسرائيل تمتلك أكثر من (200) رأس نووي، رغم أنها لا تعترف رسمياً بذلك، ولم تنضم للمعاهدة الدولية التي تمنع انتشار الأسلحة النووية، ومن المعروف أيضاً أن فرنسا تآمرت مع إسرائيل في عدوانها الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس في عام 1956. إنّ فرنسا تتحمل الآن مسؤولية أخلاقية خاصة لأنها تُعد البلد القيادي في الاتحاد الأوروبي، لذا فإنه مطلوب منها أن تقود الاتجاه الفعلي (لا، النظري) لوقف “الشراكة الإستراتيجية” للاتحاد مع إسرائيل، وأن تتوقف عن تزويدها ببعض الأسلحة، وأن تحسم أمرها فيما يتعلق بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما وعدت مراراً!رابعاً: فيما يتعلق بألمانيا:تعتقد ألمانيا أنّ عليها مسؤولية “أخلاقية” خاصة فيما يتعلق بدعم إسرائيل وذلك بسبب ما تعرّض له اليهود في عهد ألمانيا النازية في أربعينيات القرن الماضي، ولذا، لا نبالغ إذا قلنا بأنّ لديها “عقدة” فيما يتعلق بهذا الموضوع، فقد دأبت على دعم إسرائيل بمليارات الدولارات منذ نشأتها، كما أنها تُعتبر المُزود الثاني (بعد الولايات المتحدة) لإسرائيل بالأسلحة المتقدمة، وفضلاً عن ذلك، فقد تنطّحت للدفاع عن إسرائيل في محكمة العدل الدولية التي تتهمها بممارسة إبادة جماعية في قطاع غزة، ولم تشفع المظاهرات الكبيرة التي شهدتها العاصمة الألمانية وبقية المدن الكبرى في التأثير على سياسة الحكومة الألمانية التي تُجنّد نفسها بدون خجل للدفاع عن إسرائيل بكافة الطرائق والسُبل.صحيح أنّ هناك بوادر يقظة لدى هذه الدول على ما تقوم به إسرائيل أمام العالم بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وبدرجة أقل في الضفة الغربية، ولكن هذه البوادر في الواقع تأتي على استحياء، وبصورة مبعثرة وغير حاسمة، بحيث تصل إلى مواقف حقيقية وعقوبات.إنّ هذه الدول بالذات وغيرها في الواقع، من الدول الغربية ذات التأثير في مجريات السياسة الدولية، تقف في هذه الآونة التاريخية أمام مسؤولياتها الأخلاقية فإما أن تنهض بهذه المسؤوليات، وتتخذ مواقف حقيقية ضد الإجرام. الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وإمّا أن تصم نفسها باعتماد “النفاق” و”المعايير المزدوجة”، وبأنّ السياسة تحكمها “المصالح” لا “المبادئ” كما يعتقد كثيرون من المنظرين والساسة الغربيين.