الموظفون يريدون شركات أكثر استدامة: كيف يمكن للقادة تحقيق ذلك؟

شبكة تواصل الإخبارية تقدم لكم خبر
في مشهد الأعمال سريع التطور اليوم، لم تعد الاستدامة ترفاً، بل أصبحت ضرورة استراتيجية. في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، يطالب الموظفون بشكل متزايد بأن تتبنى مؤسساتهم ممارسات قوية في المسؤولية البيئية والاجتماعية. ومع وجود أسواق ديناميكية ورؤى وطنية طموحة مثل مبادرة “الحياد المناخي 2050” في الإمارات العربية المتحدة ورؤية السعودية 2030، لم تكن الدعوة إلى ممارسات أعمال مستدامة أعلى صوتاً من الآن.
ووفقاً لشركة PwC الشرق الأوسط، فإن 75% من الموظفين في المنطقة يتوقعون من أصحاب عملهم اتخاذ خطوات فعلية تجاه الاستدامة. لكن، كيف يمكن للقادة تحويل هذه المطالب إلى تغيير حقيقي ومستدام؟
غرس الاستدامة في الحمض النووي للشركات
الركيزة الأساسية لأي تحول مستدام هي وجود غاية واضحة وحقيقية مدمجة في الاستراتيجية الجوهرية للشركة. تبدأ الخطوة الأولى بتحديد هذه الغاية والتواصل بشأن كيفية تعامل الشركة مع التحديات العالمية، مثل تقليل انبعاثات الكربون، والحد من هدر الطعام، ودعم المجتمعات، وتوسيع نطاق الوصول إلى الرعاية الصحية. بعد ذلك، يجب على القادة دمج هذه الغاية في جميع جوانب المؤسسة – من التخطيط الاستراتيجي واتخاذ القرارات إلى العمليات اليومية – لضمان أن تترجم التزامات الشركة البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) إلى تأثير فعلي ملموس.
فعلى سبيل المثال، قامت أرامكو السعودية بدمج مبادرات احتجاز وتخزين الكربون (CCS) ضمن عملياتها، حيث يلتقط مشروع “العثمانية” 800 ألف طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنوياً. وبالمثل، التزمت شركة “ماجد الفطيم”، إحدى كبرى شركات التجزئة والعقارات في الإمارات، بأن تصبح “إيجابية صافية” في استخدام المياه وانبعاثات الكربون بحلول عام 2040. وقد نجحت بالفعل في تقليص انبعاثاتها التشغيلية بنسبة 10% منذ عام 2018، وتمكنت من تحويل أكثر من 80% من نفاياتها بعيداً عن مكبات النفايات.
عندما تتماشى غاية الشركة مع التحديات العالمية – سواء عبر تقليل استخدام المياه أو دعم المجتمعات المحلية – فإنها تصبح رمزاً للتقدم. ويرى الموظفون هذا الالتزام ويشعرون بالتحفيز، لأن عملهم يساهم في هدف أسمى. كما أن الشركات التي تحركها غاية تحصد مزيداً من ولاء العملاء وثقة المستثمرين، مما يعزز الاستدامة كقيمة مضافة للنمو.
تُجسد مؤسسة الإمارات للطبيعة – الصندوق العالمي للطبيعة (Emirates Nature-WWF)، التي تتعاون مع الشركات لدفع مبادرات الاستدامة دون الإخلال بالجدوى المالية، هذا النهج القائم على الغاية في المنطقة. ومن أبرز هذه المبادرات، مشروع الحفاظ على المياه العذبة في وادي شيص بالتعاون مع شركة كوكاكولا الشرق الأوسط وشركاء حكوميين، حيث تم ترميم 750 متراً من نظام الفلج التقليدي للري، وتدريب المزارعين المحليين على تقنيات استخدام المياه المستدامة، وتحقيق وفورات مائية بلغت 30%. كما أُنشئ ممر طبيعي بطول 1.8 كم، مما أسهم في رفع عدد الزوار بنسبة 50%، وهو دليل حي على أن التوفيق بين النشاط البيئي والاقتصادي ممكن من خلال كفاءة استخدام الموارد وتعزيز السياحة البيئية.
استخدام التكنولوجيا الحديثة للشفافية والكفاءة والتحفيز
توفر التكنولوجيا الحديثة أدوات قوية لتحقيق أهداف الاستدامة المدفوعة بالغاية والتواصل بشأنها بفاعلية. تتيح تحليلات البيانات المتقدمة، وأجهزة الاستشعار المتصلة بإنترنت الأشياء، ولوحات القيادة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مراقبة استهلاك الطاقة وانبعاثات الكربون وتقليل النفايات في الوقت الحقيقي. ولا تقتصر فوائد هذه الأدوات الرقمية على تتبع التقدم وتحديد أوجه القصور، بل تحفّز الموظفين أيضاً على التفاعل النشط.

على سبيل المثال، طبّقت شركة أدنوك أنظمة إدارة الطاقة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما أدى إلى خفض استهلاك الطاقة في عمليات الحفر البحرية بنسبة 15%. وقد نجحت أدنوك مؤخراً في تحقيق قيمة مالية تبلغ 500 مليون دولار وتجنب ما يصل إلى مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من خلال دمج أكثر من 30 أداة ذكاء اصطناعي عبر عملياتها
وبالمثل، قامت شركة “بيئة”، الرائدة في إدارة النفايات في الإمارات، بدمج مستشعرات إنترنت الأشياء في حاويات النفايات الذكية، مما ساعد في تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من أسطولها بنسبة 30%. كما طبقت هيئة كهرباء ومياه دبي (DEWA) الذكاء الاصطناعي وتقنية البلوك تشين في تجارة الطاقة، مما خفّض من تكاليف المعاملات وحسّن كفاءة الشبكة. ومن أصل 9.1 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي تم تجنبها، نُسبت 6.6 ملايين طن إلى تحسينات الكفاءة.
تسمح هذه الأدوات الرقمية أيضاً للشركات بإشراك الموظفين عبر الابتكار. فعلى سبيل المثال، أطلقت شركة الاتصالات السعودية STC تطبيقاً للاستدامة يتيح للموظفين تتبع أهداف تقليل الكربون، وتقديم أفكار خضراء، والحصول على مكافآت على مساهماتهم. وقد أدت هذه المبادرة إلى زيادة بنسبة 25% في المشاريع التي يقودها الموظفون في مجال الاستدامة.
تعزيز ثقافة التعلم المستمر والابتكار
للحفاظ على القدرة التنافسية، يجب على الشركات تنمية ثقافة تتبنى التعلم المستمر والابتكار، خاصة في مجال التقدم نحو الاستدامة. ويتعين على القادة الاستثمار في برامج تدريبية موجهة، وورش عمل افتراضية، وفرص إرشادية تركز على الممارسات المستدامة والتقنيات الخضراء الناشئة.
فعلى سبيل المثال، أطلقت شركة إعمار العقارية في دبي منصة رقمية تفاعلية تجمع بيانات الاستدامة من مختلف الإدارات – من استخدام الطاقة وإدارة النفايات إلى تفاعل الموظفين – وتوفر ندوات افتراضية دورية للنقاش المفتوح. وقد ساعدت هذه المبادرة في تقليص استهلاك الطاقة المؤسسية بنسبة 12%. في المقابل، طبّقت شركة الدار العقارية في أبوظبي تدريباً قائماً على الواقع الافتراضي (VR)، يتيح للموظفين محاكاة وتجربة تقنيات البناء الموفرة للطاقة، مما أسفر عن تحسين كفاءة المباني بنسبة 20%.

كما أحدثت أرامكو السعودية ثورة في تدريب موظفيها من خلال تطبيق تقنيات الواقع الافتراضي، حيث يصل آلاف الموظفين إلى العشرات من وحدات التدريب عبر مركز تعليم في الميتافيرس، مما أدى إلى تسريع عملية التدريب بمقدار أربع مرات مقارنة بالتدريب التقليدي، وزيادة مستوى الثقة في تطبيق المهارات بنسبة 2.75 مرة. ومن خلال دمج هذه التقنيات المبتكرة في المبادرات التدريبية، لا تعزز المؤسسات مشاركة الموظفين واكتساب المهارات فحسب، بل تحقق أيضاً تقدماً كبيراً في أهداف الاستدامة.
بناء شراكات متعددة القطاعات والتفاعل مع المجتمع
تُعد تحديات الاستدامة معقدة للغاية بحيث لا يمكن التعامل معها بمعزل عن الآخرين. لذا يجب على القادة بناء شراكات قوية مع أصحاب المصلحة من مختلف الصناعات والحكومات والأوساط الأكاديمية والمجتمعات المحلية لخلق النظام البيئي المناسب. ويُعد توسيع الشراكات متعددة القطاعات والتفاعل المجتمعي أمراً حيوياً لمعالجة هذه التحديات.
في الشرق الأوسط، هناك العديد من المبادرات التي تُجسد قوة التعاون. يجمع برنامج “المسرّع الأخضر الضخم” (Mega Green Accelerator) بين شركات كبرى مثل بيبسيكو، وسابك، وأسترو لابز لدعم المبتكرين في تطوير حلول مستدامة في مجالات مثل الاقتصاد الدائري، وتحولات الطاقة النظيفة، والمياه، والزراعة، من خلال توفير الاستثمار والموارد لتوسيع الابتكارات المؤثرة. ومن المبادرات البارزة الأخرى “مدينة الشارقة المستدامة”، وهي مشروع مشترك بين هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق) وشركة دايموند ديفلوبرز، تُعد أول مدينة تُبنى بطريقة مستدامة في الإمارة، وتدمج الطاقة المتجددة والمواد المستدامة ونظم إدارة النفايات الفعالة، مما يشكّل معياراً للتنمية الحضرية المستقبلية في المنطقة.
أما في قطر، فقد تعاون بنك قطر الوطني مع جامعات محلية ومنظمات غير حكومية لإطلاق حملة للحفاظ على المياه، أسفرت عن توفير 5 ملايين لتر من المياه سنوياً. كما زرعت مبادرة السعودية الخضراء أكثر من 10 ملايين شجرة في المناطق الصحراوية، مما خفّض درجات الحرارة الحضرية بما يصل إلى درجتين مئويتين في المدن المشاركة.
أما شركة مبادلة، صندوق الثروة السيادي في أبوظبي، فقد استثمرت أكثر من 5 مليارات دولار في مشاريع الطاقة المتجددة في أنحاء الشرق الأوسط، مما ساهم في التحول الإقليمي نحو الطاقة النظيفة. تُوسع هذه الشراكات أثر جهود الاستدامة وتفتح في الوقت ذاته فرصاً تجارية جديدة وتوفيرات من خلال الابتكار المشترك.
إشراك الأجيال الجديدة: جيل الألفية، وجيل Z، وجيل Alpha
يُعد إشراك جيل الألفية، وجيل Z، والجيل الناشئ Alpha أمراً حاسماً لتعزيز الاستدامة في الشرق الأوسط. وكشف استطلاع أجرته شركة ديلويت الشرق الأوسط أن 72% من المهنيين الشباب في المنطقة يأخذون في الاعتبار الأثر البيئي والاجتماعي للشركة قبل اتخاذ قرار العمل بها. كما يخطط 55% من الشباب العرب في دول مجلس التعاون الخليجي لإطلاق أعمالهم الخاصة خلال السنوات الخمس القادمة، مما يعكس روحاً ريادية قوية تتماشى مع المشاريع ذات الغاية.

أطلقت شركة “دي بي وورلد” برنامجاً رقمياً لسفراء الاستدامة عبر منصات تفاعلية وتحديات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى زيادة بنسبة 25% في مشاركة الموظفين في مشاريع الاستدامة. وفي ذات السياق، تستضيف مدينة مصدر في أبوظبي “هاكاثونات الاستدامة” السنوية، حيث يطوّر المهنيون الشباب والطلاب نماذج أعمال خضراء مبتكرة. وقد تم بالفعل تحويل عدة أفكار فائزة إلى منتجات تجارية، من بينها نموذج أولي لألواح شمسية منخفضة التكلفة زادت كفاءتها بنسبة 18%.
ومن المبادرات المتميزة أيضاً، برنامج “أبطال الاستدامة” التابع لشركة نستله، والذي أُطلق بالتعاون مع إنجاز العرب وإنجاز الإمارات. يُمكّن هذا البرنامج 200 طالب جامعي، لا سيما من الشباب المحلي، من اكتساب المعارف والمهارات اللازمة للنجاح في ريادة الأعمال، مما يخلق جيلاً جديداً من القادة المهتمين بالاستدامة. وتؤكد هذه المبادرات على الدور المحوري للأجيال الجديدة في قيادة التغيير البيئي في المنطقة، سواء كمستهلكين أو كمبتكرين.
الاستدامة كمحرك للربحية
تُعتبر الاستدامة اليوم فرصة مالية كبيرة وليست تكلفة إضافية، خاصة في الشرق الأوسط. وأظهر استطلاع أجرته PwC عام 2024 أن 4 من كل 5 مسؤولين تنفيذيين لديهم استراتيجيات استدامة رسمية، وأكثر من نصفهم قاموا بدمجها بالكامل في مؤسساتهم.
وهناك أمثلة كثيرة على الفوائد المالية لممارسات الأعمال المستدامة. في السعودية، تبرز شركة أكوا باور من خلال تنفيذ مشاريع طاقة شمسية تُعد من الأرخص على مستوى العالم، مثل مشروع “سكاكا”، الذي يوفّر الكهرباء بتكلفة 0.023 دولار لكل كيلوواط/ساعة، مما يقلل من تكاليف الطاقة للمؤسسات الصناعية. كما طبقت “كارفور الشرق الأوسط” مبادرات تهدف إلى القضاء على النفايات، أدت إلى تقليص تكاليف سلسلة الإمداد بنسبة 15%، ما حسّن الهوامش الربحية وقلل الأثر البيئي في آنٍ معاً.
وعلى نطاق أوسع، تُظهر التقنيات الذكية في الزراعة أن الممارسات المستدامة يمكن أن تكون مربحة أيضاً؛ فأنظمة الري المدعومة بالذكاء الاصطناعي تقلل من استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 50% وتزيد إنتاجية المحاصيل بنسبة 30%.
الغاية تُحرّك الابتكار
تلبية التوقعات المتزايدة للموظفين في مجال الاستدامة ليست مجرد التزام أخلاقي، بل ضرورة استراتيجية تحفّز الابتكار وتؤدي إلى النجاح على المدى الطويل. ومن خلال تحديد غاية واضحة، ودمج الاستدامة في جوهر الشركات، واستخدام التكنولوجيا، وتعزيز ثقافة التعلم، وبناء الشراكات، وإشراك الأجيال القادمة، يمكن للمؤسسات تحقيق التغيير الإيجابي وزيادة الربحية في الوقت ذاته.
إن دمج الممارسات المستدامة أصبح ضرورياً للبقاء في دائرة التنافس في الشرق الأوسط، حيث تعيد التحولات الاقتصادية السريعة والأهداف الوطنية الطموحة رسم ملامح الصناعات. ومن الجدير بالذكر أن الاستثمارات الخضراء في ست صناعات رئيسية في دول الخليج قد تساهم بما يصل إلى 2 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، وتوفر أكثر من مليون فرصة عمل، وتستقطب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة. الشركات التي تتبنى الاستدامة بشكل استباقي ستفتح آفاقاً جديدة في الأسواق، وتكسب ثقة المستثمرين، وتعزز ولاء العلامة التجارية في منطقة أصبحت تعطي أولوية متزايدة للنمو الأخضر.
الاستدامة ليست خياراً على حساب الربح – بل هي المحرك الحقيقي للتوسع، والكفاءة، والمرونة طويلة الأمد. والآن هو الوقت المناسب للقادة كي يتحركوا، ويُلهموا، ويشقوا الطريق نحو مستقبل مستدام ومربح. الأعمال الخيّرة… هي أعمال ناجحة.