تغير المواقف الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية: ضغوط شعبية أم ضرورات سياسية؟

تغير المواقف الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية: ضغوط شعبية أم ضرورات سياسية؟

أمد/ على مدى عقود، ظل الموقف الأوروبي الرسمي تجاه القضية الفلسطينية يتسم بـ”الحياد الدبلوماسي”، وإن مالت بعض الحكومات إلى دعم إسرائيل سياسياً تحت مظلة “حق الدفاع عن النفس”. لكن مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، وبلوغه مستويات صادمة من الوحشية والانتهاكات، بدأنا نلحظ تغيراً نسبياً – ولو محتشماً – في نبرة الخطاب السياسي والإعلامي الأوروبي تجاه ما يحدث.
فهل نحن أمام تحول حقيقي في المواقف الأوروبية؟ أم أن ما يجري ليس إلا استجابة مؤقتة لضغط شعبي وأزمات داخلية؟ وهل هذه التحولات نابعة من صحوة ضمير سياسي، أم هي مجرد مناورة اضطرارية لتجنب انفجار مجتمعاتهم من الداخل؟
◐ الشارع الأوروبي ينتفض
لم تعد المظاهرات المليونية المؤيدة لفلسطين مشهداً استثنائياً في مدن كـ”لندن، باريس، برلين، مدريد، روما”، بل أصبحت حالة شعبية مستمرة. الفئات التي خرجت للاحتجاج لم تقتصر على الجاليات العربية والإسلامية، بل ضمت نقابات، طلاب جامعات، شخصيات فكرية، وصحفيين ومواطنين عاديين.
الشعوب الأوروبية، التي تعايشت مع قيم العدالة وحقوق الإنسان، لم تستطع تقبّل مشهد أطفال غزة وهم يُسحقون تحت القصف، أو يُدفنون تحت الأنقاض. وقد فرض هذا التحرك الشعبي ضغطاً أخلاقياً على الحكومات، خصوصًا في ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي التي كسرت垄断 الرواية الرسمية.
◐ خطابات تتغير… ولكن بحذر
لوحظ مؤخرًا تغير نسبي في خطابات بعض القادة الأوروبيين:
إسبانيا، على لسان رئيس وزرائها “بيدرو سانشيز”، تحدثت بوضوح عن وجود “انتهاكات جسيمة” بحق المدنيين في غزة، وطالبت بوقف فوري لإطلاق النار.
أيرلندا وبلجيكا تبنتا خطابًا أكثر توازنًا، ينتقد السياسات الإسرائيلية ويدعو لمحاسبة المسؤولين عن المجازر.
فرنسا التي طالما انحازت بشكل غير مباشر لإسرائيل، اضطرت تحت ضغط مظاهرات الداخل والتقارير الحقوقية إلى التحدث بلغة أكثر تحفظًا وأقل اندفاعًا.
ألمانيا، رغم تمسكها بالدعم الكامل لإسرائيل بحكم “عقدة التاريخ”، بدأت تواجه موجة انتقادات داخلية بسبب قمعها لأي تعبير عن دعم فلسطين، مما أربك موقفها السياسي.
ومع ذلك، ما زالت أغلب المواقف محكومة بحسابات التحالفات الغربية، والعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، ومصالح الاقتصاد والسلاح.
◐ هل هو اضطرار سياسي؟
الدول الأوروبية تدرك أن استمرار انحيازها لإسرائيل في ظل المجازر الموثقة سيؤدي إلى:
1. فقدان شرعية خطابها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان.
2. تهديد استقرارها الداخلي بسبب الغضب الشعبي المتنامي.
3. تآكل الثقة في مؤسساتها لدى ملايين المواطنين المسلمين والعرب داخلها.
4. إضعاف قدرتها على التأثير في الشرق الأوسط إذا ارتبط اسمها بالتواطؤ.
لذا، فإن تعديل المواقف السياسية لا يعني بالضرورة اقتناعًا بعدالة القضية الفلسطينية، بل ربما هو اضطرار لحماية الداخل الأوروبي من الاشتعال.
◐ هل هي بداية لتغير أعمق؟
ربما تكون هذه اللحظة السياسية واحدة من المحطات النادرة التي يمكن البناء عليها عربيًا وفلسطينيًا لإعادة صياغة علاقة أكثر نضجًا مع القوى الأوروبية.
لكنها ليست كافية وحدها، إذ لا تزال الحكومات الأوروبية تقف في معظمها عند “مستوى القلق”، دون الانتقال الفعلي إلى فرض عقوبات، أو وقف التصدير العسكري، أو دعم مسار قانوني دولي حقيقي لمحاسبة مجرمي الحرب.
◐ خاتمة: بين الصحوة والمصلحة
ما يحدث الآن في أوروبا ليس ثورة سياسية على مستوى الحكومات، بل اهتزاز في الخطاب بفعل الضغط الشعبي والفجائع اليومية في غزة.
ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل تتحول هذه المواقف إلى تغيير فعلي في السياسات؟ أم أنها مجرد “مواقف موسمية” سرعان ما تُنسى عند أول تغيير في العناوين؟
وفي كل الحالات، لا بد من التذكير بأن وعي الشعوب – لا قرارات الساسة – هو صمام الأمان الحقيقي لاستمرار القضية الفلسطينية حية في الضمير العالمي.