المحكمة الجنائية الدولية وفلسطين: تأجيل العدالة أم انقسام متأصل؟

أمد/ لطالما كانت محكمة الجنايات الدولية، في نظر الشعوب، منبرًا عالميًا للعدالة، يُفترض به أن يُنصف الضحايا، ويُحاسب الجناة مهما كانت قوتهم أو مكانتهم. لكن حين يتعلق الأمر بفلسطين، يبدو أن المبادئ تتعطل، والقوانين تُؤوَّل، والعدالة تتحول إلى ملف مؤجل… وربما مُغلق بضغط سياسي.
منذ إنشاء المحكمة عام 2002، وخلال كل المآسي المتتابعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لم تُصدر المحكمة أمر توقيف واحد بحق أي مسؤول إسرائيلي، رغم توثيق آلاف الانتهاكات الجسيمة، ومنها ما يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
فهل نحن أمام عدالة مؤجلة بفعل تعقيدات قانونية؟
أم أن القضية الفلسطينية تكشف عن ازدواجية متجذرة في أداء المحكمة حين يتعلق الأمر بإسرائيل؟
◐ سجل مزدوج ومواقف انتقائية
لقد أثبتت محكمة الجنايات الدولية قدرتها على التحرّك بسرعة عندما كانت الجرائم في دول إفريقية أو على أطراف خارطة المصالح الغربية. فقد صدرت أوامر توقيف بحق رؤساء دول، ومليشيات، وقادة عسكريين، في مناطق مثل السودان والكونغو وأوغندا. بل لم تتردد المحكمة في إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد أشهر قليلة من غزو أوكرانيا.
لكن حين تعلّق الأمر بإسرائيل، وحتى بعد طلبات متكررة من السلطة الفلسطينية ومنظمات حقوقية دولية، ظلّ الملف يراوح مكانه، وسط ما يبدو أنه تسييس مباشر وغير معلن للعدالة الدولية.
◐ ملف فلسطين: وعود معلّقة منذ 2015
منذ انضمام فلسطين رسميًا إلى المحكمة عام 2015، فتح الادعاء تحقيقًا أوليًا في الانتهاكات الإسرائيلية. لكن هذا التحقيق ظل “أوليًا” لسنوات، دون انتقال إلى مرحلة التحقيق الكامل أو إصدار أوامر اعتقال.
تذرّعت المحكمة سابقًا بوجود “شكوك قانونية” تتعلق بحدود اختصاصها الإقليمي، قبل أن يُحسم الجدل لاحقًا في 2021 بأن للمحكمة صلاحية على الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة، غزة، والقدس الشرقية). ومع ذلك، بقيت التحقيقات تراوح مكانها، دون أي نتائج ملموسة.
◐ الفلسطينيون تحت النار والعالم يتفرج
العدوان الأخير على غزة أعاد هذا الجدل إلى الواجهة. مجازر موثقة، قصف مستشفيات، استهداف المدنيين، وتجويع جماعي. كل هذه الجرائم ترتكب أمام عدسات الإعلام، وبتقارير منظمات موثوقة مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، لكن صمت المحكمة ما زال مدويًا.
في المقابل، تتحرك المحكمة بسرعة في قضايا سياسية تتناغم مع المواقف الغربية، مما يطرح تساؤلًا جوهريًا:
هل باتت العدالة الدولية أداة للنفوذ، لا للإنصاف؟
◐ ازدواجية لا تخفى على الشعوب
ما يُفقد المحكمة مصداقيتها اليوم هو هذا الكيل بمكيالين. فحين يرى العالم أن الدم الفلسطيني لا يحظى بنفس المكانة القانونية والإنسانية كما غيره، تنهار الثقة بالمؤسسات الدولية.
والمفارقة أن المحكمة نفسها أقرت بأن التحقيق في فلسطين له أساس قانوني، لكن ما ينقص هو الإرادة السياسية التي تعصف بالعدالة.
◐ عدالة مشروطة أم اختبار أخلاقي؟
محكمة الجنايات الدولية اليوم أمام اختبار حقيقي لمصداقيتها.
إما أن تثبت أنها محكمة للعدالة لا تُفرق بين الضحايا، وإما أن تتحول إلى واجهة قانونية تخضع لمزاج القوى الكبرى.
وفي كلا الحالين، تبقى فلسطين مرآة كاشفة لاختلال النظام الدولي، ومظلومية الشعب الفلسطيني ستبقى حية في الضمير الإنساني، حتى لو اختارت المؤسسات أن تُغمض عينيها.