هندسة الفناء والإذلال: كيف شكل الاحتلال مظهر المساعدات في غزة؟

هندسة الفناء والإذلال: كيف شكل الاحتلال مظهر المساعدات في غزة؟

أمد/ إنَّ من أكثر المآسي وجرائم الإبادة الجماعية إنكشافاً أمام أعين العالم والرأي العام، هو ما تقوم به دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ لم يكتفِ الاحتلال بشن حرب إبادة شاملة على قطاع غزة، بل عمد إلى تفكيك ما تبقى من منظومة الحماية الإنسانية، وتحويل المساعدات إلى أدوات إذلال ومصائد موت جماعي، في مشهد مُروّع يعكس كيف تُدار الكارثة بسيناريو مرسوم بعناية.

فخلال الأشهر الماضية، تكررت مشاهد النازحين يتدافعون خلف شاحنات المساعدات، وأطفال يركضون خلف مظلات الإسقاط الجوي، قبل أن يقع كثير منهم بين شهيد وجريح، إما نتيجة للازدحام والفوضى، أو بسبب القصف الإسرائيلي المباشر لتلك التجمعات. وما بدا للبعض كخللٍ في التنسيق الإنساني، هو في حقيقته استراتيجية إسرائيلية مدروسة، تهدف إلى إدارة المجاعة والفوضى لا معالجتها.

إقصاء المؤسسات الدولية..

منذ الأيام الأولى للحرب، شنّت إسرائيل حملة ممنهجة على المؤسسات الدولية العاملة في غزة، وعلى رأسها وكالة (الأونروا)، التي تمثل الشاهد الدولي على نكبة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة، وكذلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وعدد من المؤسسات الخليجية والأوروبية.
 بالطبع، الهدف من ذلك واضح، ألا وهو تحطيم البنية الإنسانية المستقلة، ومنع أي جهة محايدة من إدارة ملف المساعدات أو توثيق الانتهاكات، واستبدال هذه المؤسسات بآليات خاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة. بهذه الطريقة، يتحول الاحتلال إلى الطرف الوحيد الذي يحدد من يجوع ومن ينجو، متحكّماً في الممرات والإغاثة وحتى لحظات الموت!!
وبناءً على ذلك، فالمساعدات كسلاح حرب
تمارسه إسرائيل بشكل سافر، لا يندرج في نطاق “سوء إدارة إنساني”، بل هو سلاح ناعم يُستخدم ببرود مميت، حيث إنَّ إغراق مناطق بعينها بالمساعدات دون تنسيق، وإسقاط طرود في أماكن مكشوفة، وإعلان “ممرات إنسانية” تُقصف بعد دقائق، كلها تكتيكات مدروسة تهدف إلى:
١. نشر الفوضى والتفكك الاجتماعي.
٢. إذلال السكان ودفعهم إلى سلوكيات يائسة.
٣. شيطنة مشهد المقاومة عبر تصوير الناس كمجموعات تتقاتل على الطحين، لا كأمة تُقاوم الاحتلال.
٤. تغييب الشهود؛ إذ أنّٰ منع المؤسسات الدولية من العمل داخل غزة يعني شيئاً واحداً: إغلاق أعين العالم عن الجريمة.. فبدون الصليب الأحمر أو فرق الإغاثة المستقلة، لا يوجد توثيق حقيقي للانتهاكات. وبدون الأونروا، يتلاشى الملف السياسي للاجئين، ويتحوّل الفلسطينيون إلى “جياع” بلا سياق أو قضية.
وهكذا؛ يصبح الصراع على البقاء مجرد فوضى إنسانية في نظر العالم، تَستخدمها إسرائيل لتبرير حلول أمنية، يتمُّ التروِّيج لها كأزمات داخلية وليست نتيجة احتلال عسكري!!

ليس خطأً، بل  تنهيج سياسي..

إنَّ الخلل في المساعدات ليس -في الحقيقة- خللاً عفوياً، بل هو سياسة محسوبة في النهج والتكتيك.. فمن خلال تغييب المؤسسات، وصناعة الفوضى، والقتل في طوابير الإغاثة، تبعث إسرائيل برسالة واضحة: “لا نجاة لكم إلا بشروطنا، ولا خبز لكم دون إذننا، ولا كرامة لكم على هذه الأرض.”
في الحقيقة، إنَّ ما يجري في غزة هو إعادةُ هندسةٍ للكارثة الفلسطينية، يُراد من خلالها كسر إرادة الصمود، وإعادة تشكيل وعي النازحين على مقاسات الاحتلال، لا على مقاسات وطنهم المسلوب.

خاتمة
في ظل حرب الإبادة هذه، لم يعد القتل فقط بالقنابل، بل أيضاً بالطعام، وبإقصاء المؤسسات، وبالتجويع المنهجي. إنها حرب على الذاكرة، وعلى الكرامة، وعلى الوعي والانتماء الوطني. وعليه؛ فإنَّ السكوت عنها ليس حياداً، بل مشاركة في الجريمة؛ وأي جريمة؟ إنها جريمةُ الحربِ الإسرائيلية بحقِّ الإنسانية.