هل تفتقر إسرائيل إلى روايتها التاريخية؟

هل تفتقر إسرائيل إلى روايتها التاريخية؟

أمد/ منذ إعلان قيامها عام 1948، بنت إسرائيل مشروعها السياسي والاستراتيجي على سردية تاريخية محكمة، قدمت من خلالها نفسها للعالم كدولة لليهود بعد قرون من “الاضطهاد”، وزعمت أنها قامت على “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. كانت هذه الرواية، وإن بدت متهافتة في نظر شعوب المنطقة، إلا أنها حازت على تصديق واسع في الغرب، خاصة في ظل الدعم الغربي المستمر لإسرائيل، سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا.
لكن، وبعد أكثر من سبعة عقود، يبدو أن هذه السردية لم تعد محصّنة كما كانت، وأنها بدأت تتعرض لتصدعات خطيرة، بفعل عوامل متداخلة أبرزها الوعي الشعبي العالمي، ووسائل الإعلام البديلة، وتحولات في الرأي العام، خاصة بين الشباب في الغرب.
◐ تغيّر الأدوات… وتغيّر الوعي
في السابق، كانت الرواية الإسرائيلية تُبث عبر وسائل إعلام كبرى تسيطر على الخطاب العالمي، ويتم تصوير الفلسطيني كـ”مخرّب” والاحتلال كـ”دفاع عن النفس”. أما اليوم، فقد أصبح المشهد مرئيًا لكل إنسان يمتلك هاتفًا ذكيًا. صور المجازر، وجثث الأطفال، وتدمير المستشفيات، تُبث لحظة بلحظة، وتنتشر على نطاق عالمي. فجأة، أصبح من الصعب التلاعب بالصورة كما كان من قبل.
لقد خلقت وسائل التواصل الاجتماعي نوافذ حرية غير مسبوقة، جعلت العالم يشهد الحقيقة بدون فلاتر سياسية، وهو ما غيّر طبيعة التلقي، وزرع الشك في السردية الصهيونية، حتى داخل المجتمعات الغربية التي كانت تعتبر إسرائيل “دولة ديمقراطية”.
◐ انكشاف التناقضات في الرواية
منذ نشأتها، قدّمت إسرائيل نفسها كدولة “تحترم القانون والديمقراطية”، لكن واقع الاحتلال المستمر، وسياسات التهجير، وبناء المستوطنات، وقتل المدنيين، يقوّض هذا الادعاء. ازدواجية الخطاب لم تعد قابلة للتبرير، وأصبحت تشكّل عبئًا أخلاقيًا على كثير من المثقفين الغربيين الذين باتوا يتساءلون: كيف يمكن لدولة تدعي الديمقراطية أن تفرض حصارًا على شعب بأكمله؟ أو أن تقصف مخيمات اللاجئين والمدارس؟
◐ تحوّلات في الرأي العام العالمي
شهدنا في السنوات الأخيرة تغيرًا ملحوظًا في المواقف الشعبية في أوروبا وأمريكا، خاصة بين الشباب، حيث تتزايد المظاهرات الداعمة لفلسطين، وتنتشر الحملات الأكاديمية والمقاطعة الثقافية والاقتصادية ، ويتنامى الإحساس بضرورة إعادة النظر في المفاهيم التي رُوّج لها لعقود.
حتى داخل الجامعات الغربية، أصبح النقاش أكثر توازنًا، وبدأت تُطرح أسئلة جوهرية: من الضحية؟ من يمارس الإرهاب؟ من يملك القوة والسلاح؟ وهي ضربة قوية للسردية التي طالما زعمت أن إسرائيل تمثل قيم العدالة الغربية.
◐ صدمة السردية أمام جرائم غزة
الحرب الأخيرة على غزة، وما تخللها من مجازر موثقة بالصوت والصورة، كانت بمثابة نقطة تحول. فحتى مؤسسات كانت دائمًا موالية لإسرائيل، بدأت ترفع صوتها بالمطالبة بوقف العدوان، وظهر انقسام داخل بعض مراكز القرار في الغرب.
أصبح من الصعب تمرير فكرة أن ما يحدث هو “دفاع عن النفس”، بينما تُدك المستشفيات والمدارس وتُبتر أطراف الأطفال. وبدأت تظهر تساؤلات حقيقية في الإعلام الغربي: هل نحن شركاء في هذه الجرائم بصمتنا؟
◐ إسرائيل بين السردية القديمة والتحديات الجديدة
رغم القوة العسكرية والإعلامية والدبلوماسية لإسرائيل، إلا أن سرديتها اليوم تواجه أزمة حقيقية. ليست هذه الأزمة نتيجة حملة دعائية مضادة، بل نتيجة الحقائق التي لم يعد من الممكن إخفاؤها، والتغير في الضمير الإنساني العالمي، لا سيما بين الأجيال الجديدة.
هذا لا يعني أن إسرائيل ستنهار، لكن يعني أن صورتها التقليدية كـ”ضحية دائمة” لم تعد تلقى القبول الواسع. وإذا استمر هذا المسار، فإن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرة لإعادة بناء روايتها أو مواجهة عزلة أخلاقية متزايدة في العالم.
◐ الخلاصة :
إن السردية الإسرائيلية التقليدية تُفقد زخمها أمام الواقع الصارخ، والحقائق الموثقة، والوعي العالمي المتنامي. ومع تصاعد جرائم الاحتلال، لم يعد من الممكن الاستمرار في ترويج أسطورة “الدولة المحاصرة” التي تدافع عن نفسها، بينما هي تمارس الاحتلال والاستيطان والحصار والقتل.
لقد تغيّر العالم، والمؤكد : أن إسرائيل لن تواكب هذا التغير، ولكنها ستستمر في فقدان شرعيتها الأخلاقية أمام الشعوب ..