التراث الشعبي والهوية الثقافية

أمد/ يكاد الباحثون أن يجمعوا على ان الاهتمام الشّعبيّ العربيّ بالفولكلور بدأ بشكل جدّي بعد الحرب العالميّة الثّانية، وبعد حصول غالبيّة الأقطار العربيّة في حينه على استقلالها السّياسيّ، حيث أصبح لكلّ دولة علم خاصّ ونشيد وطنيّ خاصّ، إلّا أنّهم يغفلون القصّ الشّعبيّ الذي دوّنه العرب قبل ذلك بقرون مثل حكايات ” ألف ليلة وليلة ” وسير الأبطال الشعبيين مثل ” سيف بن ذي يزن ” و ” الزير سالم ” و ” عنترة بن شداد ” و ” أبو زيد الهلالي ” وغير ذلك كثير . كما ان كتاب الحيوان للجاحظ فيه باب طويل عن أدب العامّة، وقد احتوى على الكثير من النّكات والأقوال الشّعبيّة، وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه احتوى هو أيضا على مأثورات شعبيّة وغيرهما .
والأداب الشّعبيّة من حكايات ونوادر وأقوال وأمثال، وأغان هي افراز لابداعات الشّعب بمجمله. وتدوين هذه الابداعات، واخضاعها للبحث والدّراسة في مراحلها المختلفة واجب أخلاقيّ ووطنيّ وإنسانيّ أيضا .
فإذا كانت ” ألف ليلة وليلة ” وغيرها قد دُوّنت في عصر الخلافة العبّاسيّة، مع ما تحويه من استعمالات للهجة المحكيّة، ومضامين جنسيّة صريحة، فمن غير المعقول، أنّه لا يزال-مع الأسف- حتى أيّامنا هذه من لا يدرك أهمّيّة تراثنا الشّعبيّ، معتقدا أنّ فيه ما يخدش الحياء! غير مدرك أنّ مقولته هذه فيها تهمة “قلّة الحياء” لآبائنا وأمّهاتنا وأجدادنا وجدّاتنا الّذين ورثنا عنهم هذا التّراث، وهذا أمر غير معقول، ويجانب الحقيقة.
فالتّراث الشّعبيّ جزء هامّ من الهوية الوطنيّة لأيّ شعب، بل إنّه أحد مكوّنات هذه الهوية، فمن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له أيضا .
والموروث الشّعبيّ بشقّيه القوليّ والمادّيّ هو إرث حضاريّ للشّعب، والتّنكّر لهذا الإرث الحضاريّ، هو استجابة مقصودة أو بدون قصد لطروحات
الأعداء الّذين يرون في الشّعب الفلسطينيّ مجرّد تجمّعات سكّانيّة، وهم بهذا ينفون عنه صفة كونه شعب .
والتّنكّر لجوانب من تراثنا الشّعبيّ كبعض الحكايات والأغاني الشّعبيّة يتساوق مع ما فعلته حركة طالبان في أفغانستان عندما دمرت التماثيل البوذية في بلادها، بحجة محاربة الوثنيّة! وهم يتانسون مثلا أنّ المسلمين بدءا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، مرورا بدولة الخلافة وحتّى أيامنا هذه لم يدمّروا التّماثيل الفرعونيّة في مصر على سبيل المثال، ولسبب بسيط أنها حضارة المصريّين في مرحلة سابقة، ومع الفارق ما بين الفعلتين ” التّنكّر لبعض الحكايات والأغاني وتدمير التّماثيل ” حيث أنّ الحكايات والأغاني الشّعبيّة تحمل في طيّاتها مفاهيم دينيّة، كبقيّة موروثنا الشّعبيّ .
ففي العام 1991 حسبما أذكر وعندما أقيم مهرجان القدس الثّقافيّ والذي شاركت فيه فرق فلكلوريّة من مختلف انحاء الوطن ، وقف أحد الأساتذة في إحدى جامعاتنا المحلّيّة ليُحرّم الاحتفالات الفولكلوريّة معتبرا إيّاها خروجا عن الدّين، ومحتجّا على استعمال مصطلح ” التّراث الشّعبيّ ” ورددت عليه بأنّ التّراث مأخوذ من الفعل ورث يرث فهو تراث وميراث، وديننا الحنيف هو تراثنا الدّيني الحضاريّ الّذي توارثناه أبا عن جد، فالوحي نزل على خاتم المرسلين صلوات الله عليه، والدّين اكتمل في عصره، ونحن توارثناه من بعده، كما أنّ تراثنا الشّعبيّ مجبول بالمفاهيم الدّينيّة؛ لأنّ ثقافاتنا الشّعبيّة ثقافة دينيّة، فعلى سبيل المثال تفتتح أمّهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا أغاني الأفراح بـ ” المهاهاة ” قائلات :
وهاي يا ناس صلّوا على النبي
وهاي بدل الصّلاة صلاتين
ويفتتح آباؤنا وأخواننا ونحن السامر بالقول :
وأوّل ما نبدا ونقول
والحذر يصلّي ع الرّسول
وهكذا…..فما كان من ذلك الأستاذ إلا أن وقف معترفا بعدم معرفته المسبقة بهذا الموضوع، وأنّه كان عنده فهم خاطئ للمصطلح، فحظي باحترام الحضور .
اللهجة العامية :
اللهجة: هي استعمال خاطئ للغة، ومدى ابتعاد أيّ لهجة عن الفصحى دلالة على مدى بعدها عن اللغة الصحيحة .
وقد اختلف الباحثون حول تدوين الموروث الشّعبي بالفصحى أم بالعامّيّة .
فبعضهم ارتأى أنه يجب تدوينه كيفما سمعته من راويه دون تغيير أو تبديل، والبعض الآخر ارتأى أنه يجب تدوينه بما يسمى اللغة الثّالثة، وهي اللغة الفصحى السّلسة التي إذا سكّنتَ آخرها تصبح عامّيّة، وأنا أميل إلى الرّأي الثّاني؛ كي يسهُل قراءته وفهمه من العرب كافّة على اختلاف لهجاتهم، مع التّنويه أنّ بعض الموروث الشّعبيّ إذا ما قمت بمحاولة كتابته بالفصحى كالمثل الشّعبيّ فإنّ رونقه ومعناه سيفسدان