النجف: الماضي والحاضر والمستقبل

النجف: الماضي والحاضر والمستقبل

أمد/ تُعتبر النجف الأشرف رابع المُدن الإسلامية بعد مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والقدس الشريف، فإضافة إلى احتضانها مرقد الإمام علي، فهي دار هجرة الأنبياء، وفيها نزل النبي ابراهيم الخليل، ودُفن فيها الأنبياء آدم ونوح وهود وصالح، وأصبحت لاحقًا مقصدًا للزيارة أو للدراسة في حوزتها الدينية منذ نحو ألف عام.

وحسب المسعودي في كتابه “مروج الذهب“، كانت النجف منتجعًا للملوك والأمراء، وتعود تسميتها إلى كونها أرض مرتفعة تصدّ الماء الذي ينجّفها، بمعنى يحيطها أيام السيول. ووفقًا لكتاب “تاج العروس“، النجف مسنّاة بظاهر الكوفة تمنع ماء السيل أن يعلو منازلها، ووصفها ياقوت الحموي في “معجم البلدان” بأنها أعدل أرض الله هواءً وأصحّها مزاجًا وماءً، وفيها بنى النعمان بن المنذر ملك الحيرة قصر الخورنق قبل الإسلام، لما فيها من بساتين ونخيل وأنهار، وسُمّيت شقائق النعمان على اسمه لأنه أحبّها وأمر بالحفاظ عليها، كما جاء في كتاب الشيخ جعفر محبوبة “ماضي النجف وحاضرها“.

جامعة النجف

​تضاهي جامعة النجف جامعات الزيتونة(تونس) والأزهر (القاهرة) والقرويين (فاس)، وهي امتداد لمدرسة الكوفة الشهيرة منذ القرن الثالث الهجري، وتُعتبر من أقدم الجامعات في العالم وأعرقها، أي أنها قبل مدرسة بولونيا (إيطاليا)، التي تُعتبر أشهر جامعة في أوروبا، حيث تأسست في العام 1119،وجامعة تشارلس(جمهورية التشيك) التي تأسست في العام 1348. وكان الشيخ الطوسي قد التحق بجامعة النجف في العام 1027 (المصادف 448 – 449)، والتي كانت قائمة قبل وجوده، وحسب تقديرات العديد من المؤرخين أن الجامعة النجفية تأسست حوالي العام 250ﻫ، في حين أن الأزهر شُرع بتأسيسه العام 309ﻫ.

الحضور الثقافي

توقّفت طويلًا أمام ما كتبه الشاعر عدنان الصائغ في بحثه القيّم والمرجعي عن “النجف واسهاماتها الحضارية“، والذي يقول فيه “وفي مدينتي ذات الألف مدرسة يلتقي في أروقتها منذ ألف عام وحتى اليوم طرفة بن العبد وأبو ذر الغفاري والجاحظ وبشار بن برد وابن الرومي ودعبل الخزامي وإخوان الصفا وعلي بن محمد قائد “الزنج” والحلاج والمغربي وعمر الخيام وداروين وماركس والأفغاني والكواكبي ومحمد عبده والسيد محسن الأمين العاملي وكاشف الغطاء محمد حسين وأخيرًا الجواهري”.

وكنت قد كتبت أيضًا: حين تتجوّل في النجف أو تزور مكتباتها أو تقضي سهرة عند أحد الأصدقاء، وفي ديوانه الذي يسمى بـ”البرّاني” تلتقي بـ الشبيبي والشرقي وأحمد الصافي النجفي وحبيب شعبان وجعفر محبوبة وجعفر الخليلي وسعد صالح جريو وأمين الريحاني ونزار قباني والمخزومي وعلي جواد الطاهر ويوسف العاني وجواد سليم والسيّاب والبياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة ومظفر النواب وحسين مردان وسعدي يوسف وعبد الرزاق عبد الواحد ونزيهه الدليميومحمود درويش وغسان كنفاني ولوركا وآراغونوديستوفسكي وزرياب وسارتر وكولن ولسن والخميني وفهد وميشيل عفلق وحسين الشبيبيوالسيد محسن الحكيم والسيد الحسني البغدادي والسيد أبو الحسن ونوري السعيد وفاضل الجمالي وخليل كنّة وزينب وأحلام وهبي ومائدة نزهت وحضيري أبو عزيز وداخل حسن واسماعيل ياسين ومحمد مهدي كبّة ومحمد رضا الشبيبيوسلام عادل وحسين جميل وكامل الجادرجي وفؤاد الركابي وحسين مروّة الذي تعرّف على ماركس في النجف كما يقول.

وكلّ هؤلاء يجمعهم هارموني التناقض المحبب وجوار الأضداد، ولكنه جامع العقل والتفكير والإبداع. تلتقي معهمببساطة وتسمع أحاديثهم وتناقشهم، بل تدخل في مناظرة مع أحدهم. هكذا كأنهم يعيشون معك في حيّ واحد أو حتى في منزل واحد أو تصادفهم في السوق أو الصحن الحيدري أو في الاجتماعات السرّية، وذلك لكثرة ما تتردّد هذه الأسماء على أفواه الناس.

عوالم اليقين واللّايقين

في النجف، وعلى الرغم من معرفتك بها، لكنك لا تتوقّف عن استكشاف عوالم جديدة ورؤى جديدة وابتداع خيال جديد ومناهج جديدة تتجاوز الميتافيزيقيا، حتى وإن ازداد شعورك بالقلق والشك، فذلك قلق وشك معرفي ديكارتي إن جاز التعبير. وبقدر ما تشعر باللّايقين فإنك تشعر بالطمأنينة، وبقدر ارتفاع منسوب الشك لديك، فإنه يأخذك إلى اليقين، وتلك هي النجف تبدأ من اليقين، وإن بدأت فنصفه شك، وهذا الأخير هو الذي يأخذك إلى اليقين العقلي التساؤلي، وليس إلى اليقين المستكين.

وهكذا يكون الإيمان بالعقل، ولا إيمان دون عقل، والدين هو دين العقل، أما الفقه فهو انعكاس للواقع وتطبيق لقواعد الدين وقيمه على أرض الواقع، وبما يتناسب مع درجة تطوّر المجتمع. ولعلّ ذلك كان عنوان كتاب حواري لي مع الفقيه السيّد أحمد الحسني البغدادي، تضمن 18 مناظرة،ابتداءً من الإيمان واللّاإيمان، إضافة إلى مقدمة حول “دين العقل وفقه الواقع“.

كلّ شيء في النجف يدلّ على الخلق، فهو ليس استبطان أو إبلاغ أو حتى تأمل… إنه سعي للخلق خارج الحدود، إنه الثورة التي تحملها النجف في داخلها، تلك التي لم تنطفئ جذوتها منذ ما يزيد عن 10 قرون من الزمن. وكفاح النجفيين عناد مع الزمن واستنطاق للمعنى لدرجة الامتلاء، وفيه الدلالة على الاستمرار والوفاء لذات القيم الأصيلة، حتى وإن تبدّلت الأشكال وتغيّرت الظروف وتضبّبت الرؤية والرؤيا.

حين أكتب عن النجف لا أكتب عن شخص، فكلّ شخص فيها موصوف، وإنما أكتب عن ظاهرة، بل ظواهر مندغمة، أكتب أفكارًا وأنقد أفكارًا وأقلّب أفكارًا وأتبادل أفكارًا، وأستأنس بأخرى، وكلّ ذلك بما يُعطي مبررًا وهدفًا للتنوير وسببًا وضرورة للتجديد.

وإذْ أختتم هذه المداخلة بالشكر للنجف ومقامها ومرجعياتها ومثقفيها وجميع من حضروا من الأدباء والشخصيات العامة والأصدقاء والأهل في مجلس آل سميسم العامر، فلا بدّ لي أن أستذكر شخصيات نجفيةاستثنائية أُعجبت بها مثل: محمد سعيد الحبوبي، السيد أبو الحسن الأصبهاني، الشيخ محمد الشبيبي، سعد صالح جريو، سلام عادل (حسين أحمد الرضي)، حسن عوينة، علي الشرقي، أحمد الصافي النجفي، الصديق عبد الأمير الحصيري، الشاعر عباس ناجي، الشاعر الحاج زاير، الشاعر عبد الحسين أبو شبع، السيد صاحب جليل الحكيم صديق العمر، ورفيقه محمد موسى، خليل جميل وحسين سلطان، محمد بحر العلوم، مصطفى جمال الدين، ولا أنسى والدي عزيز شعبان ، عزيز العزيز، ووالدتي نجاة شعبان، فقد كان لهما فضل كبير في تنشئتي.

هي النجف المدينة والناس والعقل والجدل.

هي النجف التي كانت وستكون.