الإبادة الخفية: حالة النظام الصحي في غزة وسط تأثيرات الحرب وافتقاد العدالة الدولية

أمد/ غزة: شيماء أبو سعدة – خاص: في خضم حرب طاحنة، يواجه القطاع الصحي في غزة انهيارًا غير مسبوق، نتيجة الاستهداف المنهجي من قبل إسرائيل، حيث يشهد تدميرًا واسعًا للمستشفيات والمراكز الصحية، ونقصًا حادًا في الأدوية والمستلزمات الأساسية، وسط صمت دولي مطبق وغياب تام لآليات المساءلة القانونية، فيجد نفسه في قلب مأساة مركّبة، تُمثّل واحدة من أوجه جريمة الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق سكان غزة.
وتُظهر الهجمات المتكررة على المستشفيات منها: (الشفاء، المعمداني، ناصر، الأوروبي)، ومستشفيات شمال غزة كافًة، إنها ليست عشوائية، بل تستهدف بشكل واضح مراكز الرعاية الحيوية، مما أدى إلى خروج معظمها عن الخدمة كليًا أو جزئيًا، حيث تعكس هذه السياسة تدميرًا ممنهجًا لمصادر النجاة الأساسية للسكان المحاصرين والمجوّعين.
وتشير تقارير لمنظمة الصحة العالمية إلى أن 94بالمئة من مستشفيات غزة تضررت، وقُصفت 23 مستشفى من أصل 38، ما أدى إلى توقف معظمها عن العمل، بالإضافة إلى استشهاد 1580 من الكوادر الطبية بينهم 150 طبيبًا و221 ممرضًا، واعتقال المئات، وسط ظروف عمل قاسية، وانقطاع مستمر للكهرباء والمياه والإنترنت، مع تفاقم معاناة المرضى والطاقم الطبي في آنٍ واحد.
لا خطوط حمراء
يصف فارس عفانة، مسؤول الإسعاف والطوارئ في شمال قطاع غزة الواقع الصحي بأنه كارثي ومأساوي لا يحتمل، مشيرًا إلى أن “هناك حالات كثيرة لم نتمكن من إنقاذها بسبب استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي المباشر لطواقم الإسعاف والطوارئ، خاصة خلال حصار جباليا لمدة ثلاثة أشهر (أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، 2024)، منعت الطواقم الطبية من الوصول، مما عزل المنطقة صحيًا بالكامل”.
وأضاف فارس، أنّ الوضع من الصعب وصفه فالكثير من المرضى يموتون أمام أعيننا ونحن عاجزون عن إنقاذهم ، بسبب نقص التخصصات الطبية والمعدات، مثل أجهزة القسطرة القلبية التي دمرها الاحتلال في مجمع الشفاء ومركز نور الكعبي المتخصص لغسيل الكلى، الأجهزة التي كانت تنقذ حياة آلاف المرضى لم تعد موجودة.
وعن استهداف الطواقم الطبية، يقول: “نحن نعيش في جحيم حقيقي، حيث لا قانون، ولا حماية، ولا مساءلة، وتتجاهل قوات الاحتلال بشكل متعمد اتفاقيات جنيف التي تحظر استهداف الطواقم الطبية، غير أن الاحتلال الإسرائيلي ينتهك هذه القوانين بدم بارد التي من المفترض أن تحمي العمل الإنساني”.
تنص اتفاقية جنيف الرابعة (المادتان 18 و19) على حماية المستشفيات المدنية التي تُعنى بالجرحى والمرضى، وتؤكد عدم جواز استهدافها، ومع ذلك، فإن الاحتلال الإسرائيلي يواصل قصف المنشآت الطبية في غزة، ضاربًا عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية.
بالعودة إلى مسؤول الإسعاف والطوارئ فارس عفانة، لفت إلى أن، “جرائم الاحتلال ضد الطواقم الطبية لا تُعد ولا تُحصى، وعشرات من زملائنا في الإسعاف والدفاع المدني ارتقوا شهداء نتيجة الاستهدافات المتواصلة على القطاع”.
ويختم فارس حديثه: “فقدنا الثقة بالقانون الدولي الإنساني، القانون موجود لكنه لا يُطبق، فغزة باتت خارج الحسابات”، مطالبًا العالم بالتحرك ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي على هذه الجرائم البشعة التي ترتكب بشكل يومي على الفلسطينيين بغزة.
هذا الاستهداف المتعمد للطواقم والمعدات الطبية يشكل انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني، الذي يحظر استهداف المنشآت الطبية والعاملين فيها، لكن من خلال اعتقال وقتل الطواقم الطبية، واستهداف سيارات الإسعاف، تتضح نية الاحتلال في تدمير المنظومة الصحية بشكل ممنهج، ما يرقى إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية وفقًاً لتعريفات اتفاقية منع الإبادة لعام 1948، إذ لا تستهدف فقط الأفراد وإنما وسائل حياتهم الأساسية.
المنظومة الصحية متدهورة
وصف د. خليل الدقران الناطق باسم وزارة الصحة في غزة، بأن المنظومة الصحية في قطاع غزة تواجه وضعًا كارثيًا، منذ بداية حرب الإبادة الجماعية، واستهدف الاحتلال 23 مستشفى من أصل 38 في القطاع، وبقي 15 مستشفى فقط تعمل بشكل جزئي وتحت ظروف بالغة الصعوبة، من بينها خمسة مستشفيات حكومية، ثلاثة منها تستقبل المرضى والمصابين بشكل مباشر (شهداء الأقصى، ومجمعي الشفاء وناصر)، وتم استهداف 80 بالمئة من مراكز الرعاية الصحية، وبقي 30 مركزًا فقط من أصل 107.
وعن الوضع الصحي في مجمع الشفاء، لفت إلى أنه تعرض لتدمير شامل، ولا يعمل الآن إلا بنسبة 15 إلى 20 بالمئة من طاقته، نظرًا للشح الكبير في الأدوية والمستلزمات الطبية، وغياب أسرّة المرضى، والأعداد المتزايدة للمصابين والمرضى تفوق بكثير قدراتنا، إذ تصل إلى خمسة أضعاف الطاقة الاستيعابية.
وتطرق إلى الأثر الكبير على المستشفيات الأخرى، فيعمل مجمع ناصر بشكل جزئي بعد استهداف مباني الجراحة ومستودع المحاليل الطبية، ومستشفى شهداء الأقصى يقدم خدمات بأدنى طاقته مع ازدياد أعداد النازحين، ويخدم أكثر من نصف مليون نسمة.
ويُسلط الضوء على الأثر المباشر للحصار فإن هناك أكثر من 250 ألف مريض مزمن في خطر مباشر بسبب إغلاق المعابر وندرة الأدوية ، خاصة مرضى الكلى والقلب والسرطان والسكري، الطواقم الطبية تعمل تحت ضغط هائل وسط نقص حاد في المياه والكهرباء وأدوات العمل، وتعرض الكثير من العاملين في الصحة للقتل أو الاعتقال.
ويحذر من أن أكثر من 60 بالمئة من غرف العمليات خرجت عن الخدمة بسبب نقص الوقود وقطع الغيار المتبقية والافتقار للأدوات الجراحية والأدوية الحيوية مثل أدوية التخدير والبنج، بالإضافة إلى منع المرضى من السفر للعلاج في الخارج، ما يجعل آلاف الحالات في خطر دائم، مشددًا على أنّ هذا يضاعف من معدلات الوفيات بسبب تأخير العمليات الجراحية الضرورية.
ودعا المجتمع الدولي إلى التحرك الفوري لإنقاذ المنظومة الصحية وحماية المرضى والعاملين فيها، مؤكدًا على ضرورة تفعيل آليات المساءلة الدولية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
وختم الدقران بالقول إن “مجازر الاحتلال ضد القطاع الصحي مستمرة، ومن الضروري تدخل المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، لوقف العدوان وحماية المدنيين والمنشآت الصحية.
تفاقمت أزمة المستشفيات مع استمرار العمليات البرية الإسرائيلية، حيث أدى استئناف حرب الإبادة في شهر مارس 2025، وأوامر إخلاء سكان شمال القطاع إلى زيادة الضغط على المرافق الصحية، باتت مستشفيات الجنوب تتحمّل العبء الأكبر، وسط نقص حاد في الإمكانات الطبية والانهيار المتواصل للمنظومة الصحية.
مأساة تحت النار
يروي أحد الأطباء العاملين في المستشفى الأوروبي (ح.ع) عن المشاهد المأساوية التي لا تُنسى، قائلًا: “كنا نعمل وتم قصف المشفى بشكل جنوني، وأصوات الانفجارات من كل صوب وحدب جعلّت كل شيء مهددًا بالانهيار، والمرضى في حالة ذعر، والكوادر الطبية تحاول إنقاذ من تبقى رغم نقص كل شيء”.
ويخبرنا: “قصف المستشفى المباشر ترك آثارًا نفسية وجسدية كارثية على الجميع، المستشفى بات أشبه بساحة حرب لا مكان فيه للسلام أو الأمان”.
ويشير إلى أن قسم العناية المركزة في مجمع ناصر بعد استهداف الأوروبي أصبح يستخدم أكثر من 40 سريرًا، بعضها في غرف عادية لا تصلح للحالات الحرجة، مستدركًا: أن الطاقة الاستيعابية لغرف العناية المركزة لاتتجاوز 20 سريرًا فقط، مما يُشكّل ضغطًا هائلًا على الطاقم الطبي.
وأضاف، “نقص الغذاء المقدم للمرضى يؤثر بشكل مباشر على فترة شفاء الجروح والالتهابات، حيث تستغرق فترة التعافي وقتًا أطول بسبب سوء التغذية، وهذا يجعلنا نشاهد حالات تفاقم للالتهابات والتسمم”.
ويؤكدّ أنّ المضادات الحيوية المتوفرة ضئيلة للغاية، على الرغم من حاجة المرضى إلى 3 أو 4 أنواع مختلفة منها، مما يؤدي إلى تأخر التئام الجروح، كما أن نقص المسكنات ومواد التخدير يجعل توفير الرعاية اللازمة للمرضى محدودًا.
القصف المباشر للمستشفى لا يرقى فقط إلى جريمة حرب، بل هو مؤشر على سياسة ممنهجة لاستهداف المرافق الصحية، وهي جريمة معترف بها دوليًا، خاصة في ظل وجود أضرار نفسية وجسدية للعاملين والمرضى تجعل المستشفى مكانًا بلا أمان.
رحلة الألم والخذلان
يروي أحد الجرحى أحمد منصور قصة معاناته المستمرة منذ إصابته في تاريخ 1-1 -2024، قائلًا “بعد إصابتي، تم نقلي بين ثلاث مستشفيات مختلفة، وكلها تعرضت للقصف المتكرر أو خرجنا منها بسبب أوامر الإخلاء، ولم أتمكن من إجراء عملية البلاتين بسبب نقص الأدوات الجراحية، كما لم يُسمح لي بالسفر للعلاج خارج القطاع بسبب إغلاق المعابر.”
ويصف وضعه الصحي بأنه يعيش الألم منذ عشرة أشهر، بلا مسكنات كافية، وأحيانًا بدون أدوية أساسية، بالإضافة إلى النزوح المتكرر والحصار الإسرائيلي على غزة يجعلان وضعه أسوء، وأصبح عاجزًا أمام معاناته.
قصة أحمد من بين آلاف الذين يعيشون نفس العذابات داخل غزة، وهو تجسيد حقيقي لمعاناة المدنيين المحاصرين في القطاع، وتنقله بين المستشفيات المتضررة والحرمان من السفر للعلاج ونقص الأدوية كجزء من العقاب الجماعي الذي يواجهه الأهالي، ويُضاف إلى سياق جريمة الإبادة الجماعية التي تسعى لتدمير المجتمع الفلسطيني من خلال حرمانه من مقومات الحياة الصحية.
من منظور حقوقي: جريمة حرب مكتملة الأركان
اعتبر الحقوقي د. صلاح عبد العاطي رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني حشد، أن استهداف المستشفيات جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، فهذه المنشآت تُصنف على أنها مرافق مدنية محمية حماية خاصة، وشأنها من شأن الطواقم الطبية وتعمد استهدافها يُشكّل جريمة مركبة لانتهاكها الحماية الخاصة التي يكفلها القانون الدولي.
وعن الدور الحقوقي، لفت عبد العاطي إلى أن نقوم بتوثيق هذه الجرائم بالتعاون مع هيئات دولية، ونرفع تقارير إلى محكمة الجنايات الدولية، لمواجهة هذه الجرائم وهي جزء أساسي من نضالنا الحقوقي لفرض العدالة.
وأكد، “تُعد مواجهة الجرائم التي تستهدف القطاع الصحي والطواقم الطبية جزءًا جوهريًا من معركتنا الحقوقية، عبر فضح الانتهاكات وتحفيز تضامن شعبي ضاغط على المجتمع الدولي.”
وعلى الرغم من وجود أدلة ووثائق وتقارير حقوقية متواصلة، لا تزال العدالة الدولية غائبة، ومحاسبة مرتكبي هذه الجرائم متأخرة أو معدومة، النظام الدولي يعاني من تسييس القضية الفلسطينية، ما أدى إلى استمرار الاحتلال في ارتكاب انتهاكات ممنهجة دون رادع.
فهذه الشهادات، تؤكد أن ما يحدث في غزة يتجاوز كونه أزمة صحية أو إنسانية، بل هو جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان وفق القانون الدولي، فالاستهداف الممنهج للمستشفيات، والطواقم الطبية، ومنع المرضى والجرحى من تلقي العلاج أو السفر، يشكل مخططًا لإبادة المجتمع الفلسطيني من خلال القضاء على مقومات بقائه الأساسية.
وفي ظل هذا الدمار الواسع ، لم تعد المأساة مجرد كارثة إنسانية، بل جريمة ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين أمام أنظار العالم، فالقصف لا يقتصر على المنازل والأسواق، بل يطال بشكل مباشر المرافق الطبية، التي تُعد الملاذ الأخير للجرحى والمرضى، ويتم ذلك عبر قصف المستشفيات، واعتقال وقتل الكوادر الصحية، وحرمان السكان من الحق في العلاج، ما يزيد من حجم معاناتهم.
تحت وطأة هذه الانتهاكات، تتصاعد الدعوات لوقف فوري لإطلاق النار، وإجراء تحقيقات دولية مستقلة تُحمّل إسرائيل مسؤولية جرائم الإبادة الجماعية وخرق القانون الدولي الإنساني.
وسابقاً، دعت المنظمات الصحية المحلية والدولية والمؤسسات الحقوقية ،المجتمع الدولي للتحرك الفوري لوضع حد لجريمة الإبادة الجماعية، وفتح معابر إنسانية عاجلة، وضمان وصول المساعدات الطبية، وتحقيق العدالة لأهالي غزة، ومحاسبة كل من يشارك أو يغض الطرف عن هذه الجرائم، حتى يستعيد الفلسطينيون حقهم في الحياة الكريمة.
فغياب المساءلة الدولية وعدم تطبيق القانون الدولي الإنساني يشكلان غطاءً لاستمرار هذه الجرائم، ما يجعل من مسؤولية المجتمع الدولي الأخلاقية والقانونية التحرك الفوري والفعلي لوقف هذه الانتهاكات وضمان محاسبة المسؤولين.
وارتفعت حصيلة جريمة حرب الإبادة الجماعية إلى 55,207 شهيدًا، و127,821 مصابًا منذ السابع من أكتوبر عام 2023، وذلك وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة.