الإنفاق على البنية التحتية… الغزيون يواجهون العوز في العراء

الإنفاق على البنية التحتية… الغزيون يواجهون العوز في العراء

أمد/ منذ سنوات، توجهت بوصلة الأولويات في قطاع غزة نحو خيارات أمنية وعسكرية، منذ أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة عام 2007، حيث تمثلت في بناء الأنفاق المسلحة، التي كلفت ملايين الدولارات من أموال الشعب الغزي، الذي يعاني من أزمات اقتصادية وصحية وتعليمية متفاقمة. هذا التوجه لم يكن اختيارًا اضطراريًا في ظل الاحتلال فحسب، بل كان قرارًا استراتيجيًا يعكس رؤية الحركة في إدارة الصراع، ولو على حساب الإنسان الغزي ومستقبله.

من وجهة نظر فلسفية، يمكننا القول إن السلطة السياسية حين تحيد عن وظيفتها الأساسية المتمثلة في حماية الإنسان وتنميته، تتحول من سلطة شرعية إلى سلطة مغتَصِبة للحق العام. وهنا نعود إلى المفهوم الأرسطي للسياسة بوصفها فن “تحقيق الخير العام”، ونكتشف أن ما حدث في غزة هو نقيض لهذه الفكرة. فقد جرى توجيه الطاقات والموارد نحو أدوات الحرب، لا أدوات البناء، وتم تغييب الإنسان لصالح الأيديولوجيا، وتقدمت فكرة “الموت” على حساب فكرة “الحياة”.

 

كان يمكن توظيف تلك الأموال الهائلة لبناء نظام صحي قادر على مواجهة الأوبئة، وتعزيز التعليم الذي هو حجر الأساس لأي نهضة حقيقية، وتوفير بيئة إنسانية كريمة تحفظ كرامة المواطن الغزي وتخفف عنه مرارة الحصار. لكن، بدلاً من ذلك، تم استخدام هذه الموارد في حفر الأرض بدلًا من بناء المدارس، وتشييد المتاريس بدلاً من المستشفيات، وصناعة الموت بدلاً من صناعة الحياة. إن هذا النهج أنتج جيلًا يعيش الخوف أكثر مما يعيش الأمل، ويُحرم من أساسيات الحياة في سبيل أهداف لم يشارك هو في تحديدها.

إن ما يعانيه قطاع غزة اليوم ليس فقط نتيجة الحصار الإسرائيلي، بل أيضًا نتيجة خيارات داخلية أدت إلى تهميش المواطن وتجاهل قضاياه الحقيقية. فحين تتحول المقاومة إلى غاية بذاتها، وتغيب عنها البوصلة الأخلاقية والإنسانية، يصبح المجتمع رهينة لمنطق القوة، لا منطق الكرامة. لقد خسرت غزة آلاف الأرواح، ودُمرت بنيتها التحتية، ولم تُحقق تلك الأنفاق “التحرير”، بل قادت إلى دمار هائل، ودورة عنف لا تنتهي، وعزلة سياسية وأخلاقية أثقلت كاهل المواطن.

 

لا يمكن فصل الفلسفة السياسية عن الممارسة الواقعية. وإذا كان فلاسفة التنوير قد دعوا إلى العقد الاجتماعي القائم على مصلحة الإنسان وكرامته، فإن السلطة في غزة نقضت هذا العقد حين وضعت مشروعها فوق الإنسان، وشرعنت الاستبداد العقائدي باسم المقاومة. فتمت مصادرة الموارد، وتجريف الوعي، وتخوين كل صوت حر، حتى باتت غزة سجنًا كبيرًا، لا فرق فيه بين من يعيش تحت الأنقاض ومن يسير فوقها.

 

إن غزة لا تحتاج إلى مزيد من الأنفاق، بل إلى فضاءات فكرية، ومؤسسات معرفية، ومراكز صحية، ومناهج تعليمية تُخرِج أجيالًا تُؤمن بالحياة وتبني للمستقبل. فبناء الإنسان هو الذي يُنتج الحرية، لا العكس. أما حفر الأنفاق، فربما يخلق تكتيكًا، لكنه لا يصنع وطنًا، ولا يداوي جرحًا، ولا يعيد بيتًا، ولا يعزف لحن النجاة.

لقد أهدرت حماس ثروات غزة في حفر الأرض بدلًا من بناء الإنسان، وصادرت أحلام الجيل الجديد ليظلّ وقودًا في معركة لا تنتهي. أغلقت أبواب الجامعات، وفتحت أبواب المقابر. خنقت الفكرة، وأطلقت الرصاصة. باسم المقاومة، اعتقلت كل ما يُقاوِم الجهل والمرض والقهر. من يحكم غزة اليوم لا يقودها نحو التحرير، بل يجرّها إلى الخراب، رافعًا راية الله، بينما يدفن عباده أحياء في المقابر.. “هذه ليست مقاومة… هذه خيانة لفكرة الحياة”.