حركة حماس: التوافق بين رمز النضال والتحديات أمام المشروع الوطني الفلسطيني!

أمد/ في قلب المشهد الفلسطيني المعقد، تتصدر حركة المقاومة الإسلامية “حماس” الفعل السياسي والعسكري منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، مراكمةً تجربة متشعبة في المقاومة والسلطة والتحالفات الإقليمية. غير أن حضورها الكثيف يطرح سؤالًا جديًا يستحق التأمل والتقييم: ماذا جنى الشعب الفلسطيني من هذه التجربة؟ وهل كانت مكاسبها بحجم تضحياته؟
النشأة: من الرعاية الإسرائيلية غير المباشرة إلى التمكين السياسي …
انبثقت حركة حماس من رحم جماعة الإخوان المسلمين، التي نشطت في غزة والضفة منذ خمسينيات القرن الماضي. لكن ما تجدر الإشارة إليه، أن الاحتلال الإسرائيلي شجّع بشكل غير مباشر أنشطة الجماعة في السبعينات والثمانينات، وسمح لها بالعمل الاجتماعي والدعوي والخيري، بل سهل لها الانتشار أحيانًا، في محاولة لخلق توازن سياسي يضعف منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تُصنّف عدوًا رئيسيًا.
وقد اعتبر بعض المحللين أن هذا التسهيل جاء ضمن استراتيجية إسرائيلية لتفتيت الهوية الوطنية الفلسطينية، وتغذية الانقسامات العقائدية والتنظيمية داخل المجتمع الفلسطيني، تمهيدًا لضرب المشروع الوطني الجامع.
ومع اندلاع الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987، قررت جماعة الإخوان في فلسطين تأسيس ذراع مقاومة، فأعلنت عن قيام حركة “حماس” كفصيل يجمع بين العقيدة الدينية والمقاومة والعمل السياسي، وهو ما شكّل تحولًا مفصليًا أدخل الإسلام السياسي كقوة مؤثرة في الساحة الفلسطينية، إلى جانب الفصائل الوطنية والعلمانية التي سبقتها كـ”فتح” والجبهة الشعبية وغيرها.
الرؤية والغايات: تحرير شامل أم مشروع أيديولوجي خاص …؟
في ميثاقها التأسيسي عام 1988، تبنت حماس خطابًا إسلاميًا صرفًا، مؤكدًة أن “فلسطين أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عنها”، وأن الحل يتمثل في تحرير كامل الأرض وإقامة دولة إسلامية. هذا الخطاب، رغم جذوته، وضعها في تعارض مبكر مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تقود مشروعًا وطنيًا تحرريًا ذا طابع علماني وجامع.
عام 2017، وفي محاولة للانفتاح السياسي، أصدرت الحركة وثيقة جديدة أعادت فيها صياغة خطابها، معلنةً استعدادها للقبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 دون اعتراف بإسرائيل. كما أكدت في الوثيقة فك ارتباطها التنظيمي المباشر بجماعة الإخوان. ومع ذلك، بقيت الحركة أسيرة رؤى أيديولوجية تقارب الدولة والمجتمع من زاوية دينية، ما حال دون تحولها إلى فصيل وطني جامع.
الانقسام الفلسطيني: انقلاب 2007 ومشروع تفكيك الكيانية الوطنية…!
من أخطر المحطات في مسيرة حماس كان الانقلاب العسكري في قطاع غزة صيف 2007، الذي أنهى وحدة النظام السياسي الفلسطيني، وكرّس واقعًا انفصاليًا أدى إلى انقسام مؤسساتي وجغرافي ما زال مستمرًا حتى اليوم.
وقد وفّر هذا الانقسام فرصة ذهبية للتيار اليميني في إسرائيل، الذي طالما سعى إلى تفكيك الكيانية الوطنية الفلسطينية، وإجهاض مشروع الدولة. فقد بات من السهل على إسرائيل الادعاء بأنه “لا يوجد شريك فلسطيني موحد”، ما أتاح لها التهرب من استحقاقات التسوية السياسية، والمضي في سياسات الضم والاستيطان والتهويد دون أي ضغط دولي جاد.
لقد خدم الانقسام، عمليًا، استراتيجية اليمين الصهيوني القائمة على إضعاف الجبهة الفلسطينية الداخلية، وتحويل القضية إلى ملف إنساني أو أمني بدلاً من كونها قضية تحرر وطني.
التفاهمات الأمنية: تهدئة مقابل كسر الحصار …!
منذ بداية عام 2009، وبعد انتهاء عدوان “الرصاص المصبوب”، دخلت حماس وإسرائيل في سلسلة من التفاهمات الأمنية غير المعلنة، جرت بوساطة مصرية وأحيانًا قطرية، هدفت إلى إرساء تهدئة مقابل تخفيف الحصار على قطاع غزة، عبر إجراءات اقتصادية وإنسانية محدودة.
ومع كل جولة من جولات الصراع اللاحقة (2012، 2014، 2018…) كانت هذه التفاهمات تُعاد صياغتها وتطويرها، دون أن تصل إلى مستوى اتفاق رسمي، لكنها أسهمت تدريجيًا في ترسيخ واقع الانفصال بين غزة والضفة، حيث باتت العلاقة الأمنية والإنسانية بين غزة والاحتلال تُدار بملف خاص، منفصل عن بقية الأرض الفلسطينية المحتلة.
وقد استثمرت إسرائيل هذه التفاهمات لتعميق الفصل الجغرافي والسياسي، واحتواء حماس أمنيًا، بينما أبقت على الحصار قائمًا شكليًا، تخففه مرحليًا دون إنهائه، في حين ظل قطاع غزة يواجه ويلات العزلة والتدمير الدوري.
السلاح: مقاومة مشروعة أم احتكار تنظيمي…؟!
تبنّت حماس المقاومة المسلحة وسيلة مركزية في مشروعها السياسي، فأسّست “كتائب عز الدين القسام” التي تطورت تدريجيًا لتصبح القوة العسكرية الأبرز في غزة.
لكن امتلاكها الحصري للسلاح، خارج إطار الشرعية الوطنية، دفع قطاع غزة إلى أربع مواجهات عسكرية مدمرة شنّها الاحتلال الإسرائيلي بين أعوام 2008 و2021، كانت كل منها تُستثار بفعل رشقات صاروخية محدودة من غزة، أو تصعيد عسكري تُقدِم عليه حماس أو غيرها من الفصائل، فتُقابلها إسرائيل بحرب شاملة ذات طابع تدميري.
وقد كانت المواجهة الأكبر والأكثر فتكًا هي العدوان الإسرائيلي المستمر منذ السابع من أكتوبر 2023 م، والذي جاء عقب عملية “طوفان الأقصى”، حيث استثمرت إسرائيل العملية لتشن حربًا إباديّةً شاملة على قطاع غزة، ما أدى إلى مجازر جماعية ودمار واسع النطاق طال المدنيين والبنية التحتية والمؤسسات.
في كل تلك المواجهات، دفع المدنيون الثمن الأغلى، دون أن تكون هناك رؤية وطنية جامعة تُنظم العلاقة بين خيار المقاومة وإدارة حياة السكان تحت الاحتلال، ودون أن تمتلك حماس أو غيرها استراتيجية متكاملة للتحرير أو للحكم الرشيد.
التحالفات الإقليمية: مكاسب تكتيكية ومآزق استراتيجية …!
انفتحت حماس منذ نشأتها على محاور إقليمية مختلفة، بدءًا من إيران وسوريا ولبنان، مرورًا بقطر وتركيا، وانتهاءً بعلاقات متوترة مع مصر. وقد وفّرت لها هذه التحالفات دعمًا عسكريًا وماليًا وسياسيًا مهمًا، لكنه لم يكن بلا أثمان:
فقد ربطتها هذه المحاور بأجندات غير فلسطينية، وأضعف استقلالية قرارها الوطني.
جعلتها، في نظر البعض، أداة توظيف سياسي في مشاريع إقليمية لا تخدم القضية الفلسطينية.
أدى تبدل مواقفها من ملفات كبرى، كالأزمة السورية أو الحرب في اليمن، إلى تراجع رصيدها العربي والشعبي.
ماذا جنى الشعب الفلسطيني من تجربة حماس..!؟
أولًا: ما يُحسب لها:
حافظت على خيار المقاومة في ظل انسداد الأفق السياسي بعد أوسلو.
جذبت قطاعات شعبية مؤمنة بخطابها الديني المقاوم، خاصة في غزة.
ثانيًا: ما يُؤخذ عليها:
ساهمت في تكريس الانقسام السياسي والجغرافي، وشلّ مؤسسات العمل الوطني.
فشلت في بناء نموذج حكم رشيد في غزة، حيث تفاقمت الأزمات الاقتصادية والإنسانية.
عطلت إمكانية بناء استراتيجية وطنية جامعة قادرة على مواجهة الاحتلال بوسائل متعددة.
اضعفت دور منظمة التحرير الفلسطينية، وطرحت نفسها كبديل عنها بدلًا من العمل تحت مظلتها.
وفّرت لليمين الإسرائيلي ذرائع لتقويض مشروع الدولة الفلسطينية، وعمّقت التفتت الداخلي.
نحو مراجعة وطنية شاملة …!
لا جدال في أن حماس قدمت تضحيات، ورفعت راية المقاومة، وأثبتت قدرة على المواجهة.
لكن ذلك لا يعفيها، ولا يعفي غيرها من الفصائل، من واجب العودة إلى المشروع الوطني الجامع، القائم على وحدة الشعب والمؤسسات والبرنامج السياسي.
لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد معترف بها عربيا ودوليا، وتشكيل قيادة وطنية موحدة تُخضع السلاح لقرار سياسي جمعي واحد، وتُخرج القضية من محاور التوظيف الإقليمي، وتعيد صياغة المقاومة كأداة تحرير لا كغاية سلطوية.
فلا مقاومة بلا مشروع وطني، ولا تحرير بلا وحدة وطنية، ولا مستقبل لشعب يعيش في ظل سلطتين منقسمتين ومتوازيتين، وسلاحين متنازعين.