في ظل الصراع المستمر ضد غزة وعمليات الضم والتوسع الاستيطاني وهدم المنازل

في ظل الصراع المستمر ضد غزة وعمليات الضم والتوسع الاستيطاني وهدم المنازل

أمد/ ما يجري في فلسطين اليوم لم يعد مجرد “احتلال طويل الأمد”، بل هو مشروع إحلالي متكامل الأركان، لا يخفي نواياه، ولا يوارب في أدواته، من المجازر الجماعية في غزة، إلى سياسة الضم الزاحف في الضفة، إلى التطهير العرقي في القدس، إلى هندسة الديموغرافيا على جانبي “الخط الأخضر”.

في ظل هذا المشهد المظلم، تبدو الحاجة ملحة، بل وجودية، إلى استراتيجية فلسطينية وطنية شاملة، تتجاوز لغة البيانات وردود الأفعال، وتُعيد تعريف الصراع وتوجيه أدواته. فالمقاومة ليست بندقية فقط، والنضال ليس موسميًا، والشرعية لا تُكتسب إلا من الشعب.

أولًا: قراءة الواقع بعيون فلسطينية لا استعمارية

الخطوة الأولى في بناء أي استراتيجية تحررية هي أن نقرأ واقعنا بأدواتنا، لا بأدوات العدو أو المنتصر. ما يحدث في غزة ليس “عملية عسكرية” بل حرب إبادة ممنهجة. وما يحدث في الضفة الغربية والقدس ليس “إجراءات أمنية” بل سياسة استعمار استيطاني مدروسة تهدف إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه.

علينا أن نسمّي الأشياء بأسمائها: نحن أمام مشروع استيطاني عنصري يُكرّس الأبارتهايد، ويعمل على تقويض أي إمكانية لحل سياسي عادل.

ثانيًا: وحدة وطنية حقيقية لا شكلية

لا يمكن لأي استراتيجية وطنية أن تنجح دون تحقيق وحدة فلسطينية فعلية، على قاعدة الشراكة الكاملة في القرار السياسي والميداني. لا يكفي إنهاء الانقسام بمعناه الإداري أو التقني، بل المطلوب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتضم كل القوى الفاعلة، بما في ذلك حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وفق برنامج مقاومة وتحرر، وليس إدارة أزمة.

إن بناء قيادة وطنية موحدة تُجسّد الإرادة الشعبية وتحمل مشروعًا تحرريًا واضحًا، هو شرط لا بديل عنه لأي تقدم.

ثالثًا: مقاومة متعددة الأشكال… وشاملة

المقاومة ليست فقط مواجهة مسلحة. بل تشمل أيضًا:

المقاومة الشعبية والميدانية: من كفر قدوم وبيتا والشيخ جراح إلى المظاهرات الكبرى في القدس والخليل والنقب.

المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS): كأداة استراتيجية لعزل الاحتلال وتكثيف الضغط الدولي عليه.

الاشتباك القانوني والدبلوماسي: عبر المحكمة الجنائية الدولية، وملاحقة الاحتلال ككيان مجرم حرب.

المقاومة الثقافية والإعلامية: في مواجهة الرواية الصهيونية، وتثبيت السردية الفلسطينية في الوعي العالمي.

علينا أن نُفعّل كل جبهة من هذه الجبهات، بشكل متزامن ومنسّق، بحيث تُكمل بعضها البعض لا أن تتنافس أو تتنافر.

رابعًا: استنهاض الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات

الشعب الفلسطيني ليس فقط من يقيم بين النهر والبحر. بل يمتد إلى ملايين في الشتات، لا بد من إدماجهم مجددًا في معادلة التحرير. يجب أن تستعيد المخيمات دورها كمراكز نضال لا كمناطق مهمّشة، وأن تتفاعل الجاليات الفلسطينية والعربية والداعمة مع المعركة المركزية: تحرير فلسطين.

كما أن الفلسطينيين داخل أراضي 48 هم خط المواجهة الأول مع المشروع الصهيوني، ولا يمكن عزلهم عن المشروع الوطني، بل ينبغي إدماج نضالهم المدني والسياسي كجزء من المقاومة الشاملة.

خامسًا: إعادة تعريف العلاقة مع “الشرعية الدولية”

لقد أثبتت العقود الماضية أن “المجتمع الدولي” لا يتحرك إلا تحت الضغط. لذلك لا يكفي أن نخاطبه بخطاب الضحية، بل يجب أن نفرض أنفسنا كقوة مقاومة وشرعية تقود معركة الحرية، ونعيد تشكيل أدوات الاشتباك الدبلوماسي بشكل يحوّل التعاطف إلى التزام، والإدانة إلى مساءلة.

ولا يمكن المراهنة على المفاوضات التي لم تنتج سوى المزيد من المستوطنات. فالمطلوب هو نهج اشتباك حقوقي وقانوني، لا تنازلي وتنسيقي.

سادسًا: فكّ الارتباط مع مرحلة “أوسلو”

لقد ماتت اتفاقية أوسلو سياسيًا، لكن تداعياتها الأمنية والاقتصادية لا تزال تتحكم بمفاصل حياتنا. لذلك، فإن أي استراتيجية تحررية لا بد أن تبدأ بـ:

وقف التنسيق الأمني.

إلغاء الاتفاقات الاقتصادية المجحفة (مثل بروتوكول باريس).

تحرير القرار الفلسطيني من التبعية للممولين الدوليين.

التحرر يبدأ من استعادة الإرادة الوطنية، وبناء اقتصاد مقاوم ومجتمع صامد، لا تابع ومعزول.

في الختام:

الخلاص من الاحتلال ليس حلمًا ولا شعارًا. بل هو مشروع قابل للتحقق، إذا توافرت له الرؤية، والقيادة، والإرادة الشعبية. إن ما يجري في غزة ليس نهاية المعركة، بل قد يكون بدايتها الجديدة، إذا ما عرفنا كيف نُحوّل الدم إلى وقود، والغضب إلى فعل، والوجع إلى نهوض.

ما نحتاجه ليس مزيدًا من الإدانات، بل برنامج تحرر وطني شامل، يعيد الاعتبار لفلسطين كقضية تحرر، لا نزاع حدود.

فإما أن نعيد بناء مشروعنا الوطني بأيدينا، أو نُترك ليُبنى على أنقاضنا.