ورثة داود يتغلبون على شباب جدعون: المقاومة لا تنكسر.

أمد/ بداية يجب التنويه إلى أن خطة احتلال قطاع غزة وإجلاء سكانه منه كما أقرها مجلس الحرب الإسرائيلي جرى إعدادها بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية نسوق ذلك حتى لا يتوهم أحد بعد مناكفات ترامب لنتنياهو فى قضايا عديدة مؤخرًا أن هناك اختلافًا في الاهداف والاستراتيجية بين الدولتين
خلال الحروب الاسرائيلية المتكررة على قطاع غزة درج جيش الاحتلال على اطلاق تسميات مختلفة على عملياته العسكرية مستوحاة من التراث التوراتي او ذات معاني رمزية من عملية الرصاص المصبوب الى الجرف الصامد وعامود السحاب وصيحة الفجر وحارس الأسوار والفجر الصادق والسيوف الحديدية وصولا الى عربات جدعون فيما كانت المقاومة الفلسطينية تقابلها بأسماء ذات تواصيف اكثر حدة وتعبير مثل معركة الفرقان وحجارة سجيل و العصف المأكول وسيف القدس و وحدة الساحات و طوفان الأقصى حتى حجارة داوود
بعد مرور اكثر من 610 أيام من القتال الضاري وفشل كل الحملات العسكرية السابقة في إخضاع حركة حماس واستعادة المحتجزين ومع تصعيد الحملة العسكرية الجديدة باسم ( عربات جدعون ) لا تزال المقاومة تثبت كل يوم قدرتها الهائلة على إدارة حرب استنزاف طويلة الأمد ضد جيش الاحتلال سواء عبر الكمائن المتقنة أو المفاجآت الميدانية أو التأثير على الروح المعنوية لعناصر الجيش في معركة عقائدية بدت فيها الغلبة للمقاومة بعد اصرارها على ان جنود الاحتلال سيعودون الى اهاليهم بتوابيت الموتى إن استمرت حرب الإبادة على قطاع غزة خاصة بعد كمينٍ المقاومة الفلسطينية الذي نفذته أول أيام عيد الأضحى المبارك في خانيونس وجباليا وأسفر عن مقتل ستة جنود من قوات النخبة ومن الوحدات الإسرائيلية المدرعة وإصابة خمسة آخرين أحدهم جراحه خطيرة ومنذ استئناف الحرب مجددا على قطاع غزة في 18 مارس/آذار الماضي سقط 17 جنديً وضابطًا في جيش الاحتلال 8 منهم خلال الأسبوع الأخير عدى عن قتلى وجرحى الكمين المشار اليه انفا
العملية النوعية المحكمة بجراءتها وتقنيتها العالية شكلت صفعة استخبارية وعسكرية ومعنوية جديدة للاحتلال ورسالة واضحة بأن فكرة إنهاء المقاومة بالقوة خيار غير ممكن وليس واقعي لشعب محاصر يرفض الانكسار والإبادة وعليه ليس أمام الاسرائيليين إلا إجبارَ حكومتهم وقيادتهم على وقف حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والحصار والتجويع التي لم تبقِ سوى الأسى والأنقاض في غزة
المشهد بكل تفاصيله وتقاطعاته يعيد كتابة التاريخ بروح الثورة والإيمان وسلاح الإرادة والقوة حيث اطلقت المقاومة الفلسطينية سلسلة عملياتها النوعية الأخيرة باسم ( حجارة داوود ) وهو اختيار ليس عشوائيً بل محمل بالرمزية القرآنية والدلالة النفسية في رد ذكي موفق وبليغ على التسمية الاسرائيلية التوراتية لهجومها الساحق على غزة تحت مسمى (عربات جدعون ) والذي ابتدعه جيش الاحتلال لإضفاء شرعية دينية على العدوان كمرحلة إضافية في حرب الإبادة الجماعية والترويج لسردية كاذبة بعدما افجعه واربكه الإبداع القتالي والصمود الاسطوري للشعب والمقاومة الفلسطينية
القرآن الكريم في سورة البقرة ذكر لنا ( وقتل داوودُ جالوتَ وآتاهُ اللهُ المُلكَ والحكمة ) كإشارة إلى أن النصر ليس في الكثرة بل في الصدق والحق وان داود عليه السلام كان شاب صغيرا لا يمتلك إلا حجرا ومقلاع اسقط بهما جالوت الجبار رمز الظلم والغطرسة وها هي في غزة اليوم تتكرر القصة مع شعب محاصر استطاع بقدرات و أدوات بسيطة قهر وهزيمة آلة البطش والعدوان العسكرية الإسرائيلية الجبارة التي تقتل بلا هوادة او رحمة
ان تسمية عمليات المقاومة بحجارة داود ليست مجرد انعكاس لحالة سلاح الفقراء ولا هي استعارة لغوية تحمل عدة دلالات واضحة انما هي سردية لشعب يقاوم كي يبقى وعقيدة لنضال الشعوب المقهورة الواثقة بأن النصر لا تحققه الدبابات ولا الطائرات فقط بل الإرادة والصمود والإيمان والقدرة على تحويل الحجر إلى قوة صاعقة وكمين متفجر وملحمة تحدي حيث تحمل في طياتها اسم النبوءة والرعب وهي في ذات الوقت تعني التموضع الأخلاقي والتاريخي والديني وتؤكد ان رجال المقاومة الابطال هم ( ورثة داود ) الذي قاد انتصارَ الفئة المؤمنة المستضعفة على الطغمة الباغية والمتغطرسة التي اغتصبت الرمزية وزورت القصة حين قلبت المقاومة المعادلة الدينية وسحبت رمزية النبي داوود من السردية الصهيونية وأعادتها إلى منبعها القرآني ليقاتل النبي داود في صف المظلومين الفلسطينيين
فضلا عن تأكيدها على ان رمزية الحجر الفلسطيني الذي بدأ مع نضالات الانتفاضة الأولى وما زال يشكل رمزًا صارخا للصمود والمواجهة سيما ونحن نشاهد عربات جدعون المتطورة التي يقولون عنها أنها الأفضل في العالم تتهاوى تحت وابل حجارة داود وكمائن المقاومة التي تستدرج جنود الاحتلال للموت المحقق في أزقة جباليا ورفح وخانيونس على يد مقاتلين يملكون عقيدة راسخة وسلاح ذكي ومقلاع رمزي وهم يرددون ( سيكبر الحجر ويهزم السيف من جديد وتتحطم أسطورة الجيش الذي لا يقهر )
جدعون اسم توراتي يشير وفق النصوص الدينية اليهودية- إلى المقاتل الذي قاد شعب الله المختار لتصفية من لا ينتمون إلى هذا الاختيار في الرواية الصهيونية حيث يتحول هذا الرمز إلى مرجعية دينية تسوغ الحرب باسم التفوق الأخلاقي والحق التاريخي وهي إعادة لإنتاج الفكرة المركزية في المشروع الصهيوني من خلال إحلال القوة مكان القانون والنص مكان الواقع وجدعون ايضا كلمة عبرية تعني المصارع وهو شخصية قيادية توراتية ذكرت في سفر القضاة خاض معركة حاسمة بعدد محدود من الجنود وانتصر على جيش يفوقه حجما ( المديانيين ) وهم بدو الحجاز وفقا لسفر القضاة في العهد القديم الذين سلطهم الله على بني إسرائيل لشر أفعالهم فأمر الله جدعون بتخليص بني إسرائيل منهم كما يشار لجدعون في الصحافة الإسرائيلية باعتباره بطلا قوميا أنقذ بني إسرائيل من جيش مدين المتطور آنذاك واليوم نرى اما اعيننا كيف تحطم حجارة داود عربات جدعون والتاريخ يشهد والعقيدة تنتصر والمقاومة لت تنكسر
منذ سبعة عشر شهرا وغزة تذبح على مرأى العالم بلا توقف وبلا عدالة وبلا خجل من دماء الأطفال تحت الركام في عدوان يتغذى على الصمت الدولي ويمتد كأفعى سامة تبتلع كل ما هو حي بالقصف المتواصل والقاء عشرات الآلاف الأطنان من المتفجرات وسقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى وازالت أحياء بأكملها من الوجود وما زال الاحتلال يصر على مواصلة هذا الجحيم وكأن دم الفلسطيني من ماء وكأن غزة ليست أرضا تسكنها أرواح بشرية بل مجرد هدف تدريبي طويل الأمد لجيش الاحتلال الفاشي في المقابل تواصل فصائل المقاومة الفلسطينية عمليتها العسكرية وبما يعكس روح التحدي والمواجهة في رسالة رمزية موجهة إلى الاحتلال مفادها أن الإرادة والمقاومة يمكنها تدمر التفوق العسكري وتحطم جبروته وتستنزف ترسانته المتطورة و تسقط عنوان وحشيته الممنهجة التي يراد لها أن تكتمل على ما تبقى من أنقاض وجثث ابناء غزة وبما يعكس عقلية الاحتلال المهووس بالقوة والتدمير والقتل فلا معاقل بقيت إلا البيوت المهدمة ولا أهداف إلا أجساد الجياع ولا جبهات قتال إلا داخل المخيمات ومراكز الإيواء التي تحولت إلى مقابر جماعية
العدوان الاسرائيلي الاخير على قطاع غزة لا يعد مجرد عملية تحرك عسكري قتالي بل مثل للتحول النوعي في الاستراتيجية الإسرائيلية عبر الجمع بين المناورات البرية والتطهير المكاني للسكان وتوظيف سرديات دينية وتاريخية رمزيةً لخدمة صعود اليمين الإسرائيلي في ظل تراجع حماسة جماهيره لمواصلة الحرب ورغم استخدام كافة الوسائل التقنية الاحدث من الطائرات المسيرة والكلاب البوليسية والجرافات والأسلحة الارتجاجية لم يتم اكتشاف العبوة الناسفة التي تسببت في انهيار المبنى فوق الجنود في خانيونس مما يكشف عن الإخفاق الجديد والتطور النوعي في أساليب المقاومة التي لم تكتف بزرع العبوة بل نسفتها مع توقيت دخول الوحدة الاسرائيلية بدقة متناهية وهو ما يرجح وجود مراقبة ميدانية لحظة بلحظة أو حتى اختراق واخفاق استخباري داخلي لا يزال يتكرر مع كل عملية رغم استخدام أحدث الوسائل واكبر الامكانات
حجارة داوود وهي تستدعي لحظة نبوية فارقة في مواجهتها لعربات جدعون فرضت بعدًا عميقًا يتجاوز السلاح والرصاص إلى صراع في الوعي والرمزية الدينية التي يوظفها الاحتلال لتسويق روايته في الوعي الغربي والدولي في لحظة تربط بين الفعل المقاوم والإرادة الإلهية بعيدا عن منطق التفوق وباقتراب كامل من منطلق العدل فالنصر لم يمنح لداود لأنه مختار من الله بل لأنه كان على حق ولأنه واجه الظلم بقلب ثابت وبالحجر والإيمان ليعيد تأكيد شرعية المقاومة في مواجهة آلة القمع الاجرامية المدججة بالسلاح والكراهية والانتقام
الصهيونية كحركة سياسية علمانية في جوهرها لم تتردد في اقتباس النصوص الدينية وإعادة توظيفها ضمن إطار أيديولوجي مثل يشوع وجدعون وموسى لتبرير الحصار والقتل والتجويع والهدم وخلق مشروع مستمر يكرس العنف كحق إلهي والخطير في عملية عربات جدعون أنها تأتي بعد أن دمر الاحتلال كل شيء من المدارس المستشفيات البنية التحتية الأسواق وحتى مقابر الشهداء فماذا تبقى ليقصف ويستهدف في الحقيقة ما تبقّى هو إرادة الغزيين وكرامتهم وتمسكهم بجذورهم في ارضهم وهو ما يسعى الاحتلال اخيرا لاجتثاثه بآلة عسكرية اجرامية نازية لا تعرف الرحمة ولا الحدود وما تريده إسرائيل أيضا من العملية ليس إنهاء المقاومة فقط بل دفن الحلم الفلسطيني الممتد تحت الركام وإقناع الأحياء بأن الموت هو الخيار الوحيد في ظل الحصار والقصف والتواطؤ والصامت والخذلان من قبل المجتمع الدولي وبعض الأنظمة العربية التي تكتفي بتقديم نشرات الأخبار وبيانات الشجب ولاستنكار وكأن غزة لا تعنيهم وان فلسطين ليست جرح الأمة المفتوح
قدرات المقاومة الفلسطينية العسكرية التي تمثلت بقوة ردعها استطاعة الإخلال بموازين القوى وضرب عصب الاحتلال والتأكيد على أنها قادرة على القتال لسنوات والتحرك في تكتيكات ذكية تستنزف قوات الجيش الاسرائيلي وهي لا تزال تمتلك صواريخ ومسيرات يصل مداها إلى تل أبيب والقدس المحتلة وأن اغلب القوة البشرية للمقاومة لا تزال على قيد الحياة وتمتلك القوة والمعنويات للقيام بكمائن وتفخيخ الابنية والانفاق وعمليات قنص واختطاف جنود جدد بطريقة أكثر شراسة من سابقتها
رغم عظم المحنة وهول الكارثة وبشاعة المجازر يواصل سكان غزة تقديم اروع الدروس في الصمود والتحدي كما في كل فلسطين وهم يواجهون بصدورهم العارية سادس أقوى جيش في العالم دون كهرباء ولا ماء ولا دواء وبإيمان لا يلين وعزيمة لا تنكسر وبإرادة تكتب التاريخ بالدم ورغم الحصار والمجازر ما زالت المقاومة تثبت أن هذا الشعب لا يموت وأن ما يُبنى بالدم لا يهدمه ركام ولا توقفه أساطيل القتل والفلسطيني الحر الشريف لا ينهزم حتى وإن نزف جرحه حتى الرمق الأخير وهو يردد شامخا هذه الأرض لنا والدم الذي سال على ترابها لن يضيع وإن كانت إسرائيل تقرأ التاريخ بالمجازر فإننا نكتبه بالشهادة والصبر والمقاومة
يذكر ان عدد القتلى الإسرائيليين منذ 7 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 بلغ 1866 شخص بينهم 860 جندي و82 فردا من باقي الأجهزة الأمنية إلى جانب 934 مدنيا وأجنبيا في حين لا يزال 59 أسيرا حتى اليوم لدى المقاومة الفلسطينية فيما ارتفع عدد ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية إلى 54 ألف و880 شهيد و126 ألف و227 مصاب في قطاع غزة