فلسطين في المناهج العربية الحديثة: تراجع في الحضور أم إعادة بناء؟

أمد/ لطالما كانت القضية الفلسطينية ركنًا أساسيًا في وجدان الشعوب العربية، لا باعتبارها قضية جغرافية فقط، بل باعتبارها رمزًا للكرامة والعدالة ومظلمة تاريخية ممتدة. وقد تجلى هذا الحضور عبر المدرسة والمناهج التعليمية التي لعبت دورًا رئيسيًا في تشكيل وعي الأجيال بقضية فلسطين. لكن مع التحولات السياسية في العقدين الأخيرين، والضغوط الدولية والإقليمية، يبرز سؤال شائك: هل تغيّرت مكانة القضية الفلسطينية في المناهج العربية؟ وهل نحن أمام تراجع مقصود أم إعادة صياغة؟
◐ التحولات السياسية وتداعياتها على التعليم
بعد موجة “التطبيع الرسمي” التي شهدتها بعض الدول العربية، والميل نحو “البراغماتية السياسية”، بدا أن هناك تحولًا تدريجيًا في خطاب المناهج التعليمية في بعض البلدان. لم يعد ذكر “العدو الصهيوني” و”الاحتلال” أمرًا بديهيًا كما كان في مناهج التسعينات، وبدأت بعض المقررات تتجه إلى خطاب أكثر “مخففًا” أو حتى تجاهل متعمد للوقائع الأساسية للصراع.
هذا التغير لا يحدث بمعزل عن تحولات كبرى في العلاقات الإقليمية، حيث تسعى بعض الدول لتقليل حدة العداء مع إسرائيل في خطابها العام، بما في ذلك المحتوى التعليمي، تحت شعارات “السلام الإقليمي” أو “التسامح مع الآخر”.
◐ المقارنة بين الأمس واليوم
في الماضي، كانت كتب التاريخ، والدراسات الاجتماعية، وحتى اللغة العربية، تتناول النكبة، الانتفاضات، صمود الشعب الفلسطيني، والشهداء، بشكل مباشر وواضح. أما اليوم، فيلاحظ الباحثون والمهتمون بالتربية أن بعض هذه المواضيع اختفت أو أصبحت غامضة، أو مؤطرة بلغة محايدة.
في بعض المناهج:
تم تقليص مساحة فلسطين الجغرافية والتاريخية إلى مجرد إشارات رمزية.
غابت أسماء المدن الفلسطينية الكبرى ومواقع المعارك المعروفة.
اختفت قصائد محمود درويش أو سميح القاسم، وقلّ التطرق إلى شخصية “الشهيد”.
لكن بالمقابل، لا تزال هناك دول عربية تحافظ على مركزية القضية الفلسطينية في مناهجها، بل وتؤكد عليها كقضية عربية وإسلامية، وتقدمها كمادة تعليمية لترسيخ الهوية والانتماء.
◐ إعادة تشكيل أم تهميش مقصود؟
يذهب بعض المراقبين إلى أن ما يحدث ليس تهميشًا بالمعنى التقليدي، بل إعادة تشكيل سردية القضية بما يتماشى مع لغة دبلوماسية جديدة تتجنب التصعيد وتتبنى “الحياد” في الصراع. ولكن هذا الحياد يحمل خطر فقدان البوصلة القيمية، وتحويل مأساة فلسطين إلى “موضوع خلافي” بدل أن تبقى قضية مركزية ضمير الأمة.
الطالب الذي لا يعرف عن النكبة، واللاجئين، وغزة المحاصرة، والمسجد الأقصى شيئًا، سيتعامل مع فلسطين كملف سياسي غامض، لا كقضية عادلة تستحق الدعم والتضامن.
◐ مسؤولية التعليم في الحفاظ على الوعي
المناهج ليست مجرد صفحات دراسية، بل أداة لتشكيل الوعي الجمعي وبناء الذاكرة الوطنية والقومية. وإذا غابت فلسطين عن الكتاب المدرسي، فإنها ستغيب بالتدريج عن خيال الناشئة واهتمامهم.
إن الواجب الأخلاقي والسياسي يحتم على وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي أن:
تُعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية كمحور تربوي وثقافي.
تحافظ على اللغة الواضحة والصريحة في توصيف الاحتلال والعدوان.
تُدرج موادًا تعزز الارتباط الروحي والثقافي بين الطالب الفلسطيني وأبناء الأمة العربية.
◐ في الختام :
فلسطين ليست مجرد سطر في كتاب، بل امتحان دائم لضمير هذه الأمة. وإن تغييبها أو تحييدها في المناهج لا يُعبّر فقط عن تغيير في التوجهات التعليمية، بل عن تحول في المواقف السياسية والوجدانية. لكن يبقى الأمل معقودًا على الشعوب الحية، والمربين الأحرار، ليحافظوا على الشعلة متقدة في قلوب الأجيال، حتى لا تتحول فلسطين من قضية إلى ذكرى.