سوريا تستقبل فرص الاستثمار.. ولكن من سيحمي حقوق العلامات التجارية؟

تشهد سوريا تحولاً اقتصادياً بالغ الأهمية، مع بدء عودتها التدريجية إلى الساحة التجارية العالمية بعد أكثر من 14 عاماً من الحرب والعزلة الاقتصادية. ويأتي هذا التحول في أعقاب إعلان الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وعدد من الدول الأخرى، عن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ما يفتح الباب واسعاً أمام الشركات العالمية لدخول سوق واعدة وغنية بالفرص.
لكن في مقابل هذه الآفاق التجارية الواسعة، تبرز تحديات قانونية حقيقية، ولا سيما في مجال حقوق الملكية الفكرية، ما يستدعي استراتيجيات مدروسة وواعية من قبل المستثمرين الدوليين.
الانفتاح الاقتصادي.. فرصة استراتيجية
تتمتع سوريا بموقع جغرافي استراتيجي في قلب الشرق الأوسط، يربطها بكل من العراق، الأردن، لبنان، وتركيا؛ مما جعلها تاريخياً مركزاً تجارياً إقليمياً مهماً. واليوم، ومع مؤشرات استقرار نسبي ورفع للعقوبات التي أرهقت اقتصادها، تعود الأنظار مجددًا نحوها كسوق استهلاكية ناشئة ومركز لوجستي حيوي.
إلا أن سنوات الحرب والعزلة الاقتصادية الطويلة التي عاشتها البلاد، وما رافقها من تراجع في البنية المؤسسية، تركت أثراً بالغاً على النظام القانوني، ولا سيما في مجال الملكية الفكرية، الذي يُعد نقطة تقاطع رئيسة بين القانون والتجارة. ولذلك؛ فإن أي شركة تسعى لدخول السوق السورية، ينبغي أن تجعل من حماية حقوقها الفكرية أولوية قصوى، منذ اليوم الأول.
تحديات تواجه الملكية الفكرية في سوريا
رغم امتلاك سوريا لإطار قانوني يغطي مجالات متعددة مثل العلامات التجارية، حقوق المؤلف، براءات الاختراع، وحماية المستهلك، ورغم انضمامها إلى اتفاقيات دولية كاتفاقية باريس واتفاقية تريبس، إلا أن هذا الإطار يعاني من جوانب قصور كبيرة، نوجز أبرزها فيما يلي:
1. تشريعات قديمة وغير مواكبة
لا تزال القوانين السورية بعيدة عن مواكبة التحديات الحديثة، مثل القرصنة الرقمية، انتهاك أسماء النطاقات، استخدام الذكاء الاصطناعي في توليد المحتوى، والتسويق الكميني (Ambush Marketing). هذه الثغرات تجعل من الصعب التصدي لانتهاكات الملكية الفكرية الحديثة بفعالية.
2. ضعف الكوادر والجهات الرقابية
سنوات الحرب والعقوبات أدت إلى إنهاك الأجهزة الرقابية والتنفيذية، وعلى رأسها الجمارك وجهاز حماية المستهلك. وتعاني الجهات المختصة من نقص في الكوادر المدربة والموارد اللازمة لرصد ومكافحة انتهاكات الملكية الفكرية بسرعة وكفاءة.
3. انتشار المنتجات المقلدة
شهدت الأسواق السورية خلال السنوات الماضية تدفقاً هائلاً للمنتجات المقلدة، كما برزت سوريا كمصنّع أساسي للمنتجات المقلدة في كافة القطاعات، من الأدوية والإلكترونيات، إلى السلع الفاخرة وقطع غيار السيارات. ومع ضعف العقوبات القانونية، أحجم العديد من أصحاب العلامات التجارية العالمية عن حماية حقوقهم داخل البلاد.
4. انتهاكات متزايدة في البيئة الرقمية
تنتشر في سوريا البرمجيات المقرصنة، وأسماء النطاقات المسجلة بشكل غير قانوني، والاستخدام غير المصرح به للعلامات التجارية العالمية، ما يهدد قطاعات تعتمد على الابتكار، مثل التكنولوجيا، الإعلام، الرعاية الصحية، والأزياء.
لماذا حماية الملكية الفكرية أمر ملحّ الآن؟
إن عودة الشركات الكبرى إلى السوق السورية دون اتخاذ إجراءات فورية لحماية حقوقها الفكرية قد يؤدي إلى خسائر مالية جسيمة، وتراجع في قيمة علاماتها التجارية، وفقدان ثقة المستهلك. كما قد يفسح المجال أمام أطراف غير مصرح لها لاستغلال هذه الحقوق وتحقيق أرباح غير مشروعة.
في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ سوريا، ومع بداية إعادة بناء الاقتصاد والانفتاح مجدداً على الأسواق العالمية، تلوح فرصة نادرة لوضع أساس قانوني متين لمنظومة ملكية فكرية حديثة ومستدامة. وينصح خبراء المجال باتخاذ خطوات استباقية في مجالات التسجيل، التوثيق، وبناء علاقات مؤسسية مع الجهات الحكومية المعنية.
دور محامي وخبراء الملكية الفكرية المحليين
لا تمثل هذه المرحلة تحديا فحسب، بل فرصة ذهبية للمساهمة في تأسيس ثقافة جديدة للملكية الفكرية في سوريا.
ويقع على عاتق أصحاب العلامات دور للتعاون مع المحامين والخبراء المحليين للاستعانة بهم من أجل تقديم المشورة القانونية الدقيقة للشركات العالمية، وتطوير استراتيجيات تسجيل العلامات وبراءات الاختراع وحقوق النشر، بالإضافة إلى إعداد دورات تدريبية للجهات الرسمية في الجمارك وحماية المستهلك، والمساعدة في وضع خطط فعالة للرقابة على الحدود لمكافحة دخول البضائع المقلدة، والقيام بحملات توعوية تستهدف التجار والمستهلكين. فضلاً عن التنسيق المستمر مع الجهات القضائية والتنفيذية لاتخاذ إجراءات الردع القانونية ضد المخالفين، وغيرها.
في الختام، إن الدخول إلى السوق السورية اليوم لا ينبغي أن يكون مغامرة غير محسوبة، بل خطوة استراتيجية مدروسة تراعي الأبعاد القانونية والتجارية معاً. وحماية حقوق الملكية الفكرية ليست رفاهية، بل ضرورة لبناء الثقة، وضمان استدامة الاستثمار في هذه السوق الواعدة.