الاقتصاد الباكستاني في مفترق طرق

الاقتصاد الباكستاني في مفترق طرق

تمويل العجز عبر الاقتراض المحلي أدى لمزاحمة القطاع الخاص وتقويض معدلات النمو

في ظل استمرار التوترات العسكرية بين باكستان والهند، يبدو أن الاقتصاد الباكستاني قد يكون الضحية التالية للصراع.

فبعد أسبوعين فقط من هجوم إرهابي وقع في الجزء الخاضع للإدارة الهندية من كشمير، شنت الهند سلسلة من الضربات على أراضٍ باكستانية.

وأثارت هذه الأزمة المتواصلة مخاوف من احتمال إقدام الهند على وقف تدفق نهر السند إلى باكستان، وهو تهديد لا يستطيع اقتصاد باكستان المتعثر تحمله.

قبل خمسة عقود، كانت باكستان تمتلك أقوى اقتصاد في جنوب آسيا، متفوقةً على الهند وبنجلاديش وحتى سريلانكا من حيث نصيب الفرد من الدخل.

أما اليوم، فقد انقلبت المعادلة تماماً، إذ يبلغ نصيب الفرد من الدخل في باكستان نصف ما هو عليه في دول الجوار، كما أنها متأخرة عنها في التعليم، والرعاية الصحية، ومعظم مؤشرات التنمية الأخرى.

ورغم أن سوء الإدارة الاقتصادية أسهم في هذا التراجع، فإن هناك عاملاً آخر لا يقل أهمية غالباً ما يتم تجاهله، وهو النمو السكاني السريع.

فعندما يتجاوز نمو السكان نمو الدخل، ينخفض نصيب الفرد من الناتج، حسب ما ذكره موقع “بروجكت سنديكيت”.

وتكون العواقب طويلة الأجل بعيدة المدى، فكلما زاد عدد السكان، خاصة في حال ارتفاع نسبة الإعالة، تراجعت مدخرات الأسر، وانخفضت معدلات الاستثمار، وتباطأ النمو الاقتصادي.

وقد تضاعف عدد سكان باكستان أكثر من أربع مرات خلال نصف قرن، ويُشكل من هم دون سن الخامسة عشرة اليوم نحو 36% من السكان، وهي نسبة أعلى بكثير من النسب المسجلة في بنجلاديش والهند وسريلانكا، التي تتراوح بين 22 و25%، حيث شهدت هذه الدول تباطؤاً كبيراً في النمو السكاني خلال العقود الأخيرة.

ونتيجة لذلك، لا تتجاوز نسبة السكان في سن العمل في باكستان 60%، مقارنةً بأكثر من الثلثين في بقية دول جنوب آسيا.

ويشكل هذا الخلل الديمغرافي عبئاً كبيراً على مدخرات الأسر.

فعندما يتجاوز عدد المعالين عدد القادرين على الكسب، تتراجع قدرة المجتمع على الادخار.

وهذا يفسر إلى حدٍ كبير انخفاض معدل الادخار المحلي في باكستان إلى أقل من 7%، أي أقل بنحو 20 نقطة مئوية من المعدلات المسجلة في دول الجوار.

تشير تجربة التحول الديمغرافي في جنوب شرق آسيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى أنه لو كانت باكستان تمتلك نسبة مماثلة من السكان في سن العمل كجيرانها، لكان معدل الادخار لديها أعلى بعشر نقاط مئوية.

وهو ما كان سيسمح باستثمارات أكبر بكثير في البنية التحتية، والتعليم، والتنمية الصناعية، ما يرفع معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 1 و1.5%.

وإذا ما تم الحفاظ على هذه الوتيرة لمدة 25 عاماً، لكان من الممكن أن يرتفع مستوى الدخل بنسبة تتراوح بين 30 و45%، وهو ما يكفي لسد الفجوة مع الهند وبنغلاديش.

وعلى مدار عقود، لم يتجاوز معدل الاستثمار في باكستان 15%، وهو معدل أدنى بكثير من نظرائه في بقية دول جنوب آسيا.

ورغم أن المساعدات والاستثمارات الأجنبية قدمت بعض الدعم، فإنها لم تعوض نقص المدخرات المحلية أو تدعم تكوين رأس المال.

وكانت النتيجة اقتصاداً راكداً، يتعرض لأزمات متكررة كلما جفّت مصادر التمويل الخارجي.

وقد أسهمت الاختلالات المالية في باكستان في تفاقم الوضع. فاليوم، يُخصص نحو ثلثي الإيرادات الحكومية لسداد فوائد الديون، مما يترك هامشاً ضيقاً للاستثمار العام أو الإنفاق الاجتماعي.

كما أن محاولات تمويل العجز عبر الاقتراض المحلي أدت إلى مزاحمة القطاع الخاص وتقويض معدلات النمو.

وتقف باكستان حالياً عند مفترق طرق. فقد جلب برنامج الاستقرار المدعوم من صندوق النقد الدولي بعض الاستقرار الكلي بعد أن بلغ معدل التضخم نحو 40% في عام 2023، وتراجعت احتياطيات النقد الأجنبي إلى مستويات بالكاد تكفي لتغطية ثلاثة أسابيع من الواردات.

توسيع القاعدة الضريبية قادر على توليد 6% إيرادات إضافية من الناتج المحلي

وساعدت عمليات إعادة جدولة الديون من الدائنين الرسميين، إضافة إلى تراجع أسعار النفط، على تخفيف الضغط مؤقتاً.

لكن استدامة إجراءات التقشف التي يوصي بها صندوق النقد الدولي من الناحية الاجتماعية والسياسية لا تزال محل شك كبير.

فقد تم تسريع وتيرة فرض الضرائب، بينما تم تقليص الإنفاق الاجتماعي والاستثماري بشكل كبير.

وفي غياب تمويل ميسر جديد، لا توجد أي فسحة مالية لإحداث تحول اقتصادي حقيقي.

وقد يكون البديل الأكثر فعالية هو اتباع استراتيجية تحقق التوازن بين الانضباط المالي والتنمية طويلة الأمد، مع التركيز على ثلاثة مجالات رئيسية.

أولاً، يجب على باكستان اتخاذ خطوات جادة لخفض النمو السكاني. إذ أن توسيع نطاق الحصول على التعليم، لا سيما للفتيات، سيمكّن النساء من دخول سوق العمل، بينما يمكن أن تساعد خدمات تنظيم الأسرة المحسنة على خفض معدلات الخصوبة.

وتشكل تجربة بنجلاديش نموذجاً مفيداً، فقد تباطأ نمو السكان بشكل ملحوظ مع تزايد معدلات تعليم النساء وتوظيفهن.

كما لعبت القروض الصغيرة الموجهة للنساء دوراً مهماً.

وإذا استطاعت باكستان أن تحذو حذو جيرانها وترفع نسبة السكان في سن العمل بمقدار خمس نقاط مئوية خلال العقد المقبل، فسيرتفع معدل الادخار بشكل كبير، مما سيفتح الباب أمام الاستثمار وإطلاق إمكانيات اقتصادية طويلة الأجل.

ثانياً، تحتاج البلاد إلى إصلاح نظامها الضريبي وتعزيز الالتزام به.

ويمكن لتوسيع القاعدة الضريبية، خاصة في القطاعات التي تعاني من ضعف الضرائب كالتجزئة والزراعة، وتحسين تحصيل الضرائب، أن يُولّد إيرادات إضافية تصل إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الست المقبلة.

ويجب تخصيص ما لا يقل عن نصف هذه الإيرادات للإنفاق الاجتماعي والاستثمار العام. وهو أمر بالغ الأهمية ليس فقط للحفاظ على النمو الاقتصادي، بل أيضاً لكسب الدعم الشعبي للإصلاحات الهيكلية.

وأخيراً، لا بد من زيادة دعم المجتمع الدولي. إذ يمكن أن يساعد التمويل الميسر والمنسق من الدائنين متعددي الأطراف والثنائيين في سد الفجوات التمويلية الحرجة.

وينبغي تخصيص هذه الأموال للاستثمارات ذات الأثر المرتفع في مجالات التعليم، والرعاية الصحية، وتنمية القوى العاملة، والبنية التحتية المقاومة للمناخ.

صحيح أن التحول الديمغرافي لن يحدث بين عشية وضحاها، لكن يمكن بدء العمل على تمهيد الطريق الآن.

فبمزيج مناسب من السياسات والدعم الدولي، تستطيع باكستان سد فجوة الادخار مع جيرانها، وإطلاق الاستثمارات اللازمة لإنعاش اقتصادها المتهالك.