الذكاء الاصطناعي كرائد أعمال: “اليونيكورن” المقبل قد ينشأ من شقة صغيرة في أسوان!

لعقود من الزمن، ظل بناء شركة تكنولوجية يتبع مسارًا تقليديًا محدد المعالم: يبدأ عادة بجولات جمع التمويل، ثم مرحلة توظيف المهندسين والتقنيين، فتطوير المنتج، ثم التوسع.
كانت فرص نجاح الشركات الناشئة تقاس بقدرتها على الوصول إلى رأس المال الاستثماري، وجذب المهارات التقنية النادرة، والدخول في دوائر النخب الاستثمارية والشبكات الواسعة، وكان هذا واضحًا بشكل خاص في الأسواق التي يكون التمويل فيها شحيحًا والمطورون ذوو الخبرة نادرين.
لكن القواعد تتغير.
..اليوم نشهد تحوّلًا جذريًا تقوده أدوات الذكاء الاصطناعي، لا يغير فقط طريقة بناء الشركات، بل أيضاً هوية من يملك القدرة على إطلاقها.
ثمة جيل جديد من “الشركات الناشئة الرشيقة” آخذ في الظهور— شركات تُبنى بفرق عمل أصغر، ورأس مال أولي أقل، ونفوذ غير مسبوق من خلال الذكاء الاصطناعي. يستطيع مؤسس واحد، ومن دون تمويل أو فريق كبير، أن يبني منتجًا ويطلق شركة قادرة على المنافسة عالمياً، بغض النظر عن الموقع الجغرافي، أو إمكانية الوصول إلى التمويل، أو الخلفية التقنية.
لا يوجد شريك مؤسس؟ لا مشكلة
في السابق، كان من الصعب تخيل مؤسس وحيد يُدير جميع جوانب المشروع، اليوم، أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي قادرة على إدارة سير العمل بالكامل: كتابة المحتوى (مثل Jasper وCopy.ai)، كتابة وتصحيح الأكواد (مثل Cursor وGitHub Copilot)، إنشاء تصاميم المنتجات (مثل Uizard)، تشغيل خدمة العملاء (مثل Ada وIntercom)، وحتى المراجعات القانونية (مثل Spellbook وLuminance).
هكذا يمكن لمؤسس واحد يعتمد على أدوات الذكاء الاصطناعي، أن يصمم النموذج الأولي لمنتجه، وأن يُجري التعديلات عليه، وأن يطلقه بسرعة لا يمكن تخيلها.
لقد رأينا هذا السيناريو من قبل مع أدوات “no-code” ومنصات الحوسبة السحابية، لكن الذكاء الاصطناعي يتجاوز ذلك: فهو لا يُسرع التطوير فحسب، بل يحل محل أجزاء كاملة من العمل التي كانت تتطلب متخصصين.
والأهم من ذلك، يسمح الذكاء الاصطناعي بإجراء التعديلات في الوقت الفعلي، لم تعد بحاجة إلى الانتظار حتى يصمم مصمم أو توظف مطور واجهات لتجربة فكرة ما.
في الواقع، الذكاء الاصطناعي لا يقلل التكاليف فقط—بل يغير شكل وسرعة البناء نفسه بين شركات البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والشركات المدعومة به.
من المهم هنا التمييز بين نوعين من الشركات في مشهد الذكاء الاصطناعي، والذي غالبًا ما يتم إغفاله في النقاشات العامة: الأولى هي شركات البنية التحتية للذكاء الاصطناعي (AI infrastructure)، مثل جوجل وOpenAI، والتي تطوّر نماذج لغوية ضخمة بتكاليف خيالية وفرق بحثية نخبوية. هذه الشركات تشبه شركات الطاقة التي تُنشئ المحطات وتنتج الكهرباء.
أما النوع الثاني، وهو الأهم في منطقتنا، فهو الشركات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي (AI-enabled)، والتي لا ينصب تركيزها على بناء التقنية الأساسية، بل على تطبيقها في قطاعات متخصصة.
تستخدم هذه الشركات تلك النماذج المتقدمة عبر واجهات برمجية (APIs)، وتطبّقها لحل مشاكل محددة في مجالات مثل اللوجستيات، التعليم، الصحة، أو القانون، ويمكن تشبيهها بالمستخدم الذكي الذي يعرف كيف يوظّف الكهرباء لتشغيل مصنع دون أن يبني محطة كهرباء.
يفتح هذا النموذج باب التجربة أمام الجميع، بتكلفة منخفضة وسرعة تنفيذ غير مسبوقة. كل ما تحتاجه هو حاسوب محمول واتصال بالإنترنت، لتبدأ من أي مكان في العالم، دون جمع تمويل أو توظيف أو تأخير.
ما أهمية هذا التحول للأسواق الناشئة في منطقتنا؟
في أسواق مثل مصر، والسعودية، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA)، كانت التحديات أمام الشركات الناشئة التقليدية أكثر وضوحًا: شُح في التمويل خاصة في المراحل المبكرة، قلة في الكفاءات التقنية والمواهب المحلية، ونظام بيئي أصغر ومحدود للمستثمرين الملائكيين.
لكن مع دخول أدوات الذكاء الاصطناعي إلى المعادلة، تغيّر كل شيء.
اليوم، يمكن لشاب في أسوان أو سيدة أعمال في جدة أن تُطلق شركة عالمية من غرفتها، دون أن تحتاج إلى تمويل أولي، أو شريك تقني، أو حتى فريق كبير.
يكفي أن تكون لديها رؤية واضحة، وفهم عميق لمشكلة حقيقية في قطاع ما، لتبدأ في بناء الحل مدعومة بأدوات الذكاء الاصطناعي.
هذا لا يفتح باب المنافسة فقط، بل يطلق العنان للإبداع المحلي، فنحن أمام جيل من المؤسسين يمتلكون خبرات متراكمة في مجالات مثل العقارات، التعليم، الرعاية الصحية، والخدمات الحكومية، ويمكنهم أن يدمجوا الذكاء الاصطناعي مع رؤيتهم لحل المشكلات بشكل أسرع وأرخص من أي وقت مضى.
هذه ليست أمثلة نظرية، فنحن نرى مشاريع جديدة تظهر دون مهندسين داخليين، وبدعم عملاء يعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتسويق آلي، ودورات إنتاجية تعتمد بالكامل على التوليد التلقائي.
فالذكاء الاصطناعي يمكّن نوعًا جديدًا من المؤسسين—ليسوا تقنيين فحسب، بل تشغيليين؛ ليسوا أصحاب رؤية فقط، بل حرفيين.
خرافة أن بناء الذكاء الاصطناعي مكلف
ربما يكون أحد أكثر المفاهيم الخاطئة انتشارًا هو أن شركات الذكاء الاصطناعي مكلفة بطبيعتها. هذا الاعتقاد نابع من التغطية الإعلامية لعمالقة البنية التحتية، حيث يتكلف تدريب نموذج واحد ملايين الدولارات، لكن الغالبية العظمى من الشركات الناشئة لا تحتاج إلى ذلك.
لكن كما ذكرنا سابقا، فإن معظم الشركات الناشئة المدعومة بالذكاء الاصطناعي لا تتدرب على نماذجها الخاصة. إنها ببساطة تستخدمها.
فأدوات الذكاء الاصطناعي المتاحة اليوم تعتمد على نموذج الدفع حسب الاستخدام، صحيح قد تكون واجهات برمجة تطبيقات الذكاء الاصطناعي مكلفة عند التوسع، لكنها في المراحل الأولى تُعد من أرخص الأدوات وأكثرها فاعلية. ومع الاستخدام الذكي، يمكن لهذه الأدوات أن تحل محل وحدات كاملة مثل الدعم الفني أو التسويق أو التحليل القانوني، مما يوفّر التكاليف بدلًا من زيادتها.
ما نخسره، وما نربحه!
بالطبع، لا يخلو هذا التحوّل من تحديات بل قل مقايضات. الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يعني تقليص حجم الفريق، مما قد يحد من تنوع وجهات النظر.
كما أن المؤسس اليوم مطالب بأن يكون مدير منتج، ومسوقًا، ومتحكمًا في أدوات الذكاء الاصطناعي في آنٍ واحد، كما أن هناك خطر من الاعتماد المفرط على نماذج جاهزة قد لا تُناسب كل سياق، كذلك يصبح ضبط الجودة تحديًا جديدًا عندما يكون العمل مُولدًا بواسطة الآلات.
لكن المكاسب هائلة على الجانب الآخر: سرعة في إطلاق المنتجات، انخفاض التكاليف، توسّع عالمي من اليوم الأول، ودخول لاعبين جدد من خلفيات غير تقليدية إلى ساحة الابتكار.
لقد تغيرت قواعد اللعبة للشركات الناشئة؛ وينبغي أن نتوقع أن يتغير مشهد ريادة الأعمال بالكامل معها.
جيل جديد من المؤسسين ورواد الأعمال.
من خلال عملي في منظومات الشركات الناشئة في أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ألاحظ ملامح جيل جديد من المؤسسين.
لا ينتظرون شريكًا مؤسسا أو تقنيًا، ولا يسعون للحصول على تمويل قبل إثبات فكرتهم، ولا يطرقون أبواب الحاضنات والمسرّعات.
إنهم يبنون
هؤلاء المؤسسون يفهمون الذكاء الاصطناعي، ليس كحل سحري، بل كأداة تعظيم لقدرتهم على الإنجاز.
يرون رأس المال كخيار، وليس شرطًا. ويثبتون أن السمة الأهم في عصر الذكاء الاصطناعي ليست المال أو البرمجة—بل وضوح المشكلة واتساع الرؤية وسرعة التنفيذ.
ختامًا: من وادي السيليكون إلى أسوان!
نحن لا نشهد مجرد موجة تكنولوجية جديدة، بل تحوّلاً جذريًا في طريقة إنشاء الشركات من الأساس. الذكاء الاصطناعي لا يُغيّر فقط ما نبنيه، بل كيف نبنيه، ومن يبنيه.
شركات المستقبل ستكون أصغر، أسرع، أكثر رشاقة وتنوعًا، وأقل اعتمادًا على الحدود الجغرافية أو التمويل التقليدي.
وفي ذلك المستقبل، قد لا يأتي الـ “يونيكورن” (شركة بقيمة مليار دولار) القادم من وادي السيليكون، بل من شقة صغيرة في أسوان.
بقلم:
بقلم: مجدي شحاتة، رائد الأعمال ومؤسس شركة Söderhub السويدية لتسريع أعمال الشركات الناشئة