داليا سمير تكتب: شهادات الكربون.. خطوة جديدة نحو اقتصاد مستدام

داليا سمير تكتب: شهادات الكربون.. خطوة جديدة نحو اقتصاد مستدام

في خضم التحديات البيئية العالمية التي باتت تهدد استدامة الحياة على كوكب الأرض، تبحث الدول عن أدوات مبتكرة تجمع بين حماية البيئة وتعزيز النمو الاقتصادي.

ومن بين هذه الأدوات تبرز “شهادات الكربون” كآلية فعالة للحد من الانبعاثات الغازية، وفي الوقت ذاته وسيلة لخلق فرص استثمارية جديدة من خلال ما يُعرف بالتمويل المناخي.

وفي هذا الإطار، تشهد مصر حراكًا ملحوظًا لتأسيس سوق طوعية لتداول شهادات خفض الكربون، ما يعزز من مكانتها كمركز إقليمي في هذا المجال الواعد.

وشهادات الكربون هي وثائق مالية تمثل خفضًا قدره طن واحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أو ما يعادلها من الغازات الدفيئة. ويجري إصدار هذه الشهادات من خلال مشاريع بيئية معتمدة، مثل مشروعات الطاقة المتجددة، أو مبادرات إعادة التشجير، أو تحسين كفاءة الطاقة.

ويتم تداول هذه الشهادات في إطار سوقين رئيسيتين: السوق الإلزامية التي تُفرض فيها حدود قانونية للانبعاثات على الشركات والدول، والسوق الطوعية التي تسمح للكيانات بالمساهمة بشكل اختياري في خفض الانبعاثات، إما بدافع المسئولية البيئية أو لتعزيز سمعتها المؤسسية.

وتعمل هذه الشهادات كآلية تعويض بيئي؛ فإذا كانت شركة معينة تُطلق كميات من الغازات الدفيئة تفوق الحد المسموح به أو المطلوب منها خفضه، فيمكنها شراء شهادات كربون من جهة أخرى نفذت مشروعًا أدى إلى تقليص الانبعاثات، وهو ما يحقق التوازن المطلوب ويخلق حافزًا ماليًا لحماية البيئة.

في أغسطس 2024، أطلقت الهيئة العامة للرقابة المالية أول سوق طوعية منظمة لتداول شهادات خفض الكربون في مصر، وهي كذلك الأولى من نوعها على مستوى القارة الأفريقية.

وتُعد هذه الخطوة نقلة نوعية في جهود الدولة المصرية للتحول نحو الاقتصاد الأخضر وتعزيز أدواتها في مواجهة تغير المناخ.

وتهدف هذه السوق إلى تشجيع الشركات على اتخاذ خطوات فعلية لتقليل بصمتها الكربونية، من خلال آلية اقتصادية قائمة على الحوافز.

كما تستهدف جذب التمويل المناخي إلى الداخل المصري لدعم المشروعات البيئية المستدامة، وهو ما من شأنه أن يعزز القدرة على تنفيذ التزامات الدولة في اتفاقيات المناخ الدولية، وعلى رأسها اتفاق باريس للمناخ.

بحلول سبتمبر 2024، كانت السوق قد شهدت تسجيل 14 مشروعًا بيئيًا، وتنفيذ أكثر من 12 عملية تداول بإجمالي 4,5 ألف شهادة كربون، في حين بلغ عدد الشهادات المسجلة في قاعدة بيانات الهيئة 18,4 ألف شهادة، وهو ما يشير إلى تنامي الوعي والإقبال على هذا المسار الجديد في السوق المصرية.

لضمان توسيع قاعدة المشاركة في سوق الكربون، حددت الحكومة المصرية 16 قطاعًا أساسيًا يمكن أن تشهد أنشطة مؤهلة لإصدار شهادات خفض الكربون. وتشمل هذه القطاعات: الطاقة المتجددة، والنقل المستدام، وإدارة النفايات، والزراعة المستدامة، والصناعة النظيفة.

هذا التنوع في القطاعات يفتح الباب أمام طيف واسع من المبادرات البيئية، ويضمن دمج الاعتبارات المناخية في مختلف مناحي النشاط الاقتصادي، بما يعزز القدرة على التكيف مع آثار التغير المناخي وفي ذات الوقت المساهمة في خفض مسبباته.

ورغم هذا التقدم الملموس، فإن سوق الكربون في مصر لا تزال في طور التكوين، وتواجه عدة تحديات جوهرية، أبرز هذه التحديات يتمثل في الحاجة إلى ضمان الشفافية الكاملة في عمليات إصدار وتداول الشهادات، ما يتطلب تطوير منظومة رقابة دقيقة وفعالة تحظى بثقة المستثمرين.

كما أن السوق تحتاج إلى جهود توعية شاملة تستهدف الشركات والمستثمرين، لتعريفهم بآليات السوق، والعوائد المحتملة من المشاركة فيها، وأثرها على تعزيز التنافسية وتحسين الصورة الذهنية للشركات.

ويضاف إلى ذلك ضرورة تطوير البنية التحتية الرقمية والقانونية اللازمة لتسجيل المشاريع وتسهيل عمليات التداول، بما يضمن كفاءة السوق واستدامتها.

في المقابل، تفتح هذه السوق آفاقًا اقتصادية واستثمارية مهمة، إذ يمكن للشركات أن تستفيد من خفض انبعاثاتها ليس فقط بيئيًا ولكن أيضًا ماليًا، من خلال بيع شهادات الكربون أو الاستفادة منها لتقليل التكاليف البيئية مستقبلاً.

كما أن هذه السوق تُسهم في جذب رؤوس الأموال من صناديق الاستثمار التي باتت تركز بشكل متزايد على التمويل الأخضر والمشروعات المستدامة.

علاوة على ذلك، فإن ترسيخ مكانة مصر كمركز إقليمي لتداول الكربون يمنحها فرصة لتعزيز ريادتها المناخية على مستوى أفريقيا والشرق الأوسط، وهو ما ينسجم مع استراتيجيتها الوطنية لتغير المناخ 2050.

إن شهادات الكربون ليست مجرد أوراق مالية أو أدوات محاسبية، بل تمثل حجر زاوية في التحول إلى نمط إنتاجي واستهلاكي أكثر استدامة. ومصر، من خلال تأسيس سوق طوعية لتداول هذه الشهادات، ترسخ نهجًا استباقيًا يربط بين الاقتصاد والبيئة.

ولكي تؤتي هذه السوق ثمارها الكاملة، لا بد من استكمال الإطار التشريعي والمؤسسي الداعم، مع بناء شراكات قوية بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.

فمع تضافر الجهود، يمكن لمصر أن تلعب دورًا محوريًا في إعادة تشكيل الاقتصاد الأخضر إقليميًا، والمساهمة بفاعلية في المعركة العالمية ضد التغير المناخي.

بقلم:
داليا سمير، مدير وشريك مؤسس شركة “هيدروجين مصر”