الديون تشكل عبئًا على الدول النامية

54 دولة توجه 10% من الإيرادات الضريبية لسداد مدفوعات الفوائد
كان البابا فرنسيس الراحل محقاً في دق ناقوس الخطر بشأن أزمة الديون والتنمية التي تواجه الدول النامية، وكان محقاً أيضاً في ربط قضية الديون بأسئلة أوسع تتعلق بالعدالة العالمية وكرامة الإنسان والمسؤولية تجاه الأجيال القادمة.
رغم أن البعض زعم أن أزمة الديون في العالم النامي بدأت تتلاشى، فإن الواقع في العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط الأدنى يُظهر أن الأزمة باتت أعمق وأكثر تجذراً.
ورغم أن هذه الدول قد لا تعلن تخلفها عن سداد التزاماتها، فإنها عملياً تتخلف عن تحقيق التنمية.
فمع شح السيولة، باتت الحكومات تضطر إلى تحويل مواردها العامة الشحيحة بعيداً عن قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية والتكيف المناخي، لصالح خدمة ديون تم التعاقد عليها في وقت كانت فيه الظروف المالية العالمية أكثر ملاءمة.
تُظهر بيانات حديثة صادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) أن 54 دولة تنفق أكثر من 10% من إيراداتها الضريبية على مدفوعات الفوائد فقط.
كما تضاعف متوسط عبء الفوائد على الدول النامية، كنسبة من الإيرادات الضريبية، تقريباً منذ عام 2011.
واليوم، يعيش أكثر من 3.3 مليار شخص في بلدان تنفق على خدمة الدين أكثر مما تنفقه على الصحة، و2.1 مليار في دول تنفق على الدين أكثر مما تنفقه على التعليم.
هذا المسار لا يؤدي إلى تنمية مستدامة، بل تمثل هذه الديون عائقاً أمامها، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
في الوقت ذاته، ترتفع تكاليف الاقتراض بشكل حاد. فالقروض التي تم التعاقد عليها بعد أزمة 2008 المالية، عندما تراجعت أسعار الفائدة إلى ما يقارب من الصفر، يتم الآن تجديدها بأسعار فائدة أعلى بكثير.
السياسات الحالية في الدول النامية تخدم الأسواق المالية وليس الشعوب
ورغم تراجع الهوامش منذ جائحة كوفيد-19 واندلاع الحرب في أوكرانيا، فإن تكلفة تجديد الديون في أسواق المال الحالية لا تزال مرتفعة بشكل غير محتمل لكثير من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط الأدنى.
ويتفاقم الوضع أكثر بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي، حيث يؤدي النمو البطيء إلى تقويض استدامة الديون وتعميق الأزمة.
تعكس هذه الأزمة فشلاً منهجياً في النظام المالي العالمي، يتمثل في استمرار عدم التوازن في تدفقات رأس المال على المستوى الدولي.
ففي حين تتدفق رؤوس الأموال بشكل معاكس للدورة الاقتصادية إلى الاقتصادات المتقدمة، فتدعمها خلال فترات الركود، فإنها تتدفق بشكل متزامن مع الأزمات في الدول النامية، مما يزيد من حدة الصدمات.
والنتيجة؟
تحولت صافي التحويلات الخارجية إلى قيمة سلبية.
ففي عام 2023 وحده، شهدت الدول منخفضة ومتوسطة الدخل (باستثناء الصين) تدفقاً صافياً للخارج بقيمة 30 مليار دولار من الدين طويل الأجل إلى القطاع الخاص، وهو تحسن طفيف مقارنة بـ50 مليار دولار في 2022، لكنه لا يزال يمثل استنزافاً كبيراً للتنمية.
كما أن المؤسسات المالية متعددة الأطراف أخفقت هي الأخرى.
فقد انهار صافي التحويلات من صندوق النقد الدولي إلى الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط الأدنى بعد أن كانت قد ارتفعت خلال الجائحة.
فمن تحويل إيجابي بقيمة 22 مليار دولار عام 2020، تراجع الصافي إلى الصفر في 2022، ثم إلى -5 مليارات دولار في 2023، نتيجة انخفاض الصرف من جهة، وارتفاع مدفوعات الفوائد بشكل كبير من جهة أخرى.
مع ذلك، لولا وجود بنوك التنمية متعددة الأطراف، لكان الوضع أكثر سوءاً. إذ يحدث ما يشبه خطة إنقاذ خفية، حيث توفر هذه البنوك العملات الصعبة التي تستخدمها الدول الفقيرة لسداد ديونها للقطاع الخاص، بدلاً من توجيهها نحو أهداف تنموية حقيقية.
لا يمكن أن يكون الأمر أوضح من ذلك، فنحن بحاجة إلى استجابة منهجية تبدأ بالاعتراف بوجود الأزمة.
لقد جسد البابا فرنسيس نوع القيادة الغائبة بين أصحاب المصلحة، سواء من جانب المدينين أو الدائنين، فدعوته إلى “سنة اليوبيل” التي تعطي الأولوية للعدالة في ملف الديون ليست مجرد دعوة رمزية، بل تعكس حاجة ملحة لإعادة التفكير في الهياكل التي تخذل مليارات البشر.
من هذا المنطلق، طلب البابا فرنسيس– إلى جانب مارتين جوزمان– تأسيس “لجنة اليوبيل” التي تنعقد تحت مظلة الأكاديمية البابوية للعلوم الاجتماعية، وتضم نخبة من الاقتصاديين البارزين، وعلماء القانون، والممارسين في مجال التنمية.
وهناك إجماع متزايد بين الخبراء على أن السياسات الحالية المتعلقة بالديون في العديد من الدول النامية تخدم الأسواق المالية وليس الشعوب.
وهذا النهج يهدد بإدخال دول بأكملها في “عقد ضائع”، أو أسوأ من ذلك، وخسارة عقد أو أكثر من التنمية بالنسبة لأفقر الفئات وأكثرها هشاشة هو أمر لا يمكن للعالم تحمّله.
لا بد أن ينتقل النقاش إلى ما هو أبعد من سرديات ضيقة ترى النجاح فقط في تفادي التخلف المالي عن السداد.
بل يجب أن يعكس الواقع المعيشي لمليارات البشر الذين تُرهن مستقبلاتهم لخدمة ديون قديمة بشروط غير مستدامة.
كما يجب أن يبدأ بمعالجة العيوب الجوهرية في النظام المالي العالمي التي أدت إلى تكرار أزمات الديون والتنمية.
لقد حان وقت التحرك المسئول.