هل ستؤثر تعاريف “ترامب” سلبًا على سلاسل القيمة العالمية؟

بناء مصانع أشباه الموصلات المتقدمة يستغرق سنوات ويحتاج إلى مليارات الدولارات
في السنوات الأخيرة، أدى تصاعد التوترات الجيوسياسية وتبني السياسات الصناعية إلى تعطيل شبكات الإنتاج التي كانت قائمة منذ زمن طويل.
والآن، يرفع تصعيد الحرب التجارية التي يقودها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هذا الاضطراب إلى مستوى جديد، مهدداً وجود سلاسل القيمة العالمية بشكل مباشر. ويتجلى هذا التهديد بشكل خاص في قطاع أشباه الموصلات.
تتميز سلسلة قيمة أشباه الموصلات بتعقيد غير معتاد وتوزع جغرافي واسع.
تبدأ هذه السلسلة بالمواد الخام والمواد الكيميائية المتخصصة، ثم تنتقل إلى معدات رأس المال وتصميم الرقائق، تليها عملية تصنيع الرقائق، قبل أن تنتهي بالتجميع والاختبار والتغليف.
كل مرحلة من مراحل الإنتاج تتميز بمستويات مختلفة من كثافة رأس المال، والتطور التكنولوجي، والتعرض للمخاطر الاستراتيجية، حيث تتضمن بعض أجزاء السلسلة، لا سيما تصميم الرقائق، كميات كبيرة من التكنولوجيا الملكية.
تكتسب أشباه الموصلات أهمية استراتيجية كبيرة، فهي ضرورية للتقنيات الرقمية الحالية وتمكين الابتكار المستقبلي، مما يجعل تغييرات قواعد التجارة وتصاعد المخاطر السياسية مكلفة للغاية، حسب ما أوضحه موقع “بروجكت سنديكيت”.
فعلى سبيل المثال، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تقييد صناعة أشباه الموصلات في الصين عبر فرض ضوابط تصدير تحد من وصولها إلى الرقائق المتقدمة والمعدات الحديثة.
وبقطع الصين عملياً عن القمة التقنية العالمية، تُجبر الشركات الصينية على تطوير سلاسل توريد موازية تتجنب التقنيات أو المصادر المحظورة.
تؤدي التعريفات الجمركية العالية والمتغيرة، والتي تفتقر إلى الاتساق عبر سلاسل القيمة، إلى تشويه هياكل التكلفة.
سلسلة قيمة أشباه الموصلات لا تنهار.. لكنها تشهد إعادة تشكيل استراتيجية
ونظراً لأن الإلكترونيات النهائية (أو المنتجات الصيدلانية) غالباً ما تخضع لتعريفات جمركية مرتفعة لا تؤثر على المكونات الأولية، فإن الشركات تقوم بنقل التجميع النهائي إلى دول ذات تعريفات منخفضة.
في الوقت نفسه، وضعت الدول أشباه الموصلات في قلب استراتيجياتها الصناعية.
فقد خصصت الولايات المتحدة أكثر من 50 مليار دولار من الحوافز الفيدرالية لتعزيز الإنتاج المحلي للرقائق، والبحث، ومرونة سلسلة التوريد في إطار قانون الرقائق والعلوم لعام 2022.
وليست الولايات المتحدة وحدها في ذلك؛ فالقانون الأوروبي لأشباه الموصلات، ودعم اليابان للتغليف المتقدم، وقانون “كيه للرقائق الإلكترونية” في كوريا الجنوبية، جميعها تهدف إلى تعزيز القدرات المحلية في المجالات الرئيسية المتعلقة بإنتاج أشباه الموصلات.
لكن إعادة توطين سلاسل توريد أشباه الموصلات ليست بالأمر السهل، فمصانع تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة (الفابرات) تستغرق سنوات لبنائها، وتتطلب استثمارات بمليارات الدولارات، وتعتمد على عمالة ماهرة للغاية.
ونتيجة ذلك، تتبع الدول نموذجاً هجيناً، حيث تعيد توطين العقد الحساسة (مثل الفابرات ذات المواصفات الدفاعية)، وتوزع المراحل الأقل قيمة إلى شركاء موثوقين.
تلعب دول منها ماليزيا والفلبين وسنغافورة وفيتنام، التي توفر استقراراً سياسياً وتنافسية في التكاليف وإمكانية الوصول إلى الأسواق، دوراً متزايد الأهمية في تغليف الرقائق، والاختبار، والتجميع النهائي.
ويجذب تجمع بينانج في ماليزيا استثمارات كبيرة في التجميع والاختبار المتقدم لأشباه الموصلات الخارجية، بينما وضعت سنغافورة نفسها كمركز للبحث والتطوير عالي القيمة وابتكار التغليف.
والعام الماضي، عقب فرض قيود جديدة على الصادرات إلى الصين، وقعت شركة إنفيديا الأمريكية للرقائق اتفاقاً لإنشاء مركز أبحاث وتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي في فيتنام.
بالنسبة لشركات أشباه الموصلات الكبرى، تتوزع سلسلة التوريد الجديدة بحيث يتم تصميم رقائق المنطق في الولايات المتحدة، والتصنيع في تايوان، والتغليف في ماليزيا أو فيتنام، والتكامل النهائي في المكسيك أو الهند.
أما الشركات متوسطة الحجم فقد تسعى إلى التكامل الرأسي للسيطرة على المدخلات الرئيسية. والجميع يعمل على زيادة وضوح السلسلة وتوفير التكرار لضمان المرونة.
من جانبها، تسعى الحكومات إلى تعزيز مرونة سلسلة التوريد، وتحسين القدرة التنافسية الاقتصادية، وضمان السيادة التكنولوجية.
ولتحقيق هذه الأهداف، ينبغي عليها تنفيذ أطر سياسية تتجاوز مجرد تشجيع الاستثمار المحلي، لتسهيل التكامل عبر الحدود بين الحلفاء.
ويشمل ذلك توحيد حوافز الاستثمار، وتنسيق أنظمة ضوابط التصدير، وتوحيد تمويل البحث.
ويمكن لاتفاقيات التجارة متعددة الأطراف مثل إطار العمل الاقتصادي لمنطقة الهندو-باسيفيك من أجل الازدهار، واتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، بالإضافة إلى الأطر الثنائية الجديدة، أن تلعب دوراً محورياً في هذا المجال.
يجب على الحكومات أن تكون مستعدة لتكييف هذه الأطر مع التغيرات الناشئة ليس فقط عن التطورات الجيوسياسية، بل أيضاً عن التقدم التكنولوجي.
فقد أدى صعود معدلات الذكاء الاصطناعي، والرقائق الصغيرة، وتقنيات التغليف المتقدمة إلى إعادة توزيع القيمة نحو القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على الملكية الفكرية ضمن سلسلة القيمة.
علاوة على ذلك، مع تقليل الأتمتة للاعتماد على العمالة منخفضة التكلفة، يمكن نقل مزيد من الإنتاج إلى مناطق ذات تكاليف عالية.
وفي الوقت نفسه، تخلق المواد الجديدة مثل كربيد السيليكون ونترات الغاليوم، فرصاً متخصصة للدول التي تمتلك قدرات في الكيمياء المتخصصة وعلوم المواد.
بعيداً عن دعم التحول في سلاسل القيمة بشكل مباشر، يجب على الحكومات ضمان أن تكون أطرها التنظيمية واضحة وموثوقة ومستقرة، فحماية الملكية الفكرية والمعايير البيئية وسياسات فحص الاستثمارات كلها عوامل تحدد قرارات الشركات بشأن مواقع الإنتاج.
فالمناطق التي تعاني ضعفا في التنفيذ، أو غموضا في القوانين، أو تقلبات جيوسياسية، ستُعتبر محفوفة بالمخاطر، حتى وإن كانت تقدم مزايا في التكلفة، مما يصعب عليها جذب الاستثمارات.
لا تنهار سلسلة قيمة أشباه الموصلات، لكنها تشهد إعادة تشكيل استراتيجية.
ويعكس الشكل الجديد نموذجاً جديداً من العولمة أكثر وعياً سياسياً، يقدر ليس فقط الكفاءة الاقتصادية، بل أيضاً المرونة والثقة والسيادة التكنولوجية.
وستكون الدول التي تفهم هذا التحول وتتحرك بسرعة لتقليل المخاطر واغتنام الفرص التي يخلقها، هي التي ستتصدر المشهد مستقبلاً.