توقعات أسعار الذهب: هل هو هدوء قبل عاصفة الفيدرالي أم بداية مسار صاعد جديد؟

تواصل أسعار الذهب الحفاظ على استقرارها النسبي ومكاسبها المتواضعة وسط بيئة عالمية تزداد فيها عوامل عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي، لتبقى فوق مستوى 2360 دولاراً للأونصة، وهو ما يعكس توازنًا دقيقًا بين الطلب على الملاذات الآمنة وضغوط الأسواق المالية. ومن وجهة نظري، فإن هذا الاستقرار الهش ليس سوى انعكاس لتوقعات متأرجحة بشأن السياسات النقدية الأمريكية والتطورات الجيوسياسية المتسارعة، التي تضع المستثمرين في موقع دفاعي بانتظار قرارات مفصلية قد تعيد رسم معالم المرحلة المقبلة.
وصحيح أن الذهب فقد شيئاً من زخمه خلال بداية تعاملات اليوم الثلاثاء، إلا أن حفاظه على الاتجاه الصعودي للجلسة الثانية على التوالي يكشف عن مرونة في الطلب عليه رغم التحسن النسبي في شهية المخاطرة. فالتطورات الأخيرة في العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، رغم كونها مشجعة، ما زالت تفتقر للوضوح والاستقرار، خاصة في ظل مواقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتقلبة، التي تخلق حالة دائمة من الترقب والقلق في الأسواق. وهنا، أرى أن كل تلميح إيجابي من جانب ترامب يُقابَل بمخاوف أعمق من انتكاسات مفاجئة، مما يجعل الذهب خيارًا جذابًا لمن يسعون لتقليل المخاطر في محافظهم.
وفي المقابل، يُظهر الدولار الأمريكي ضعفًا لافتًا في أدائه رغم بيانات اقتصادية أمريكية جاءت أفضل من المتوقع، بما في ذلك ارتفاع مؤشر مديري المشتريات لقطاع الخدمات إلى 51.6 نقطة، مما يعكس توسعًا في القطاع بعيدًا عن منطقة الانكماش. غير أن هذه البيانات لم تكن كافية لتعزيز الثقة الكاملة في المسار الاقتصادي الأمريكي، لا سيما في ظل التهديدات التجارية المتزايدة من إدارة ترامب، مثل فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على المنتجات الثقافية الأجنبية. وفي اعتقادي، هذا النوع من السياسات يؤثر سلباً على معنويات المستثمرين ويزيد من المخاوف بشأن الدخول في مرحلة تباطؤ اقتصادي جديد، وهو ما يبرر استمرار تدفقات رؤوس الأموال نحو الذهب كأداة تحوّط.
أما التوترات الجيوسياسية، من جهتها، تلعب دورًا محوريًا في دعم الطلب على الذهب، وقد تصاعدت بشكل ملموس خلال الأيام الماضية، مع تكرار الهجمات الأوكرانية على موسكو، وإغلاق المطارات الروسية الكبرى نتيجة لهذه الهجمات، إلى جانب استمرار العمليات العسكرية في مناطق حساسة مثل كورسك. هذا غير ارتفاع حدة التوترات العسكرية في الشرق الأوسط، تضيف بعدًا إقليميًا جديدًا للأزمة، وتُغذي حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، مما يبرر استمرار الذهب كوجهة مفضلة للتحوّط من المخاطر.
ورغم هذه العوامل الداعمة، لا يبدو أن المستثمرين مستعدون للدفع بأسعار الذهب إلى مستويات أعلى بشكل كبير قبل وضوح الرؤية حول قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي. فاجتماع لجنة السوق المفتوحة، الذي يبدأ اليوم، يشكل لحظة مفصلية، في ظل تراجع توقعات السوق بشأن خفض أسعار الفائدة في يونيو. وأرى شخصيًا، أن رئيس الفيدرالي جيروم باول سيتبع سياسة حذرة، ساعيًا للموازنة بين السيطرة على التضخم وتفادي التسبب بركود اقتصادي، مما قد يُبقي السياسة النقدية عند مستوياتها الحالية لفترة أطول مما تأمله الأسواق. وهذا السيناريو يعزز من فرص استمرار حالة التماسك في أسعار الذهب، دون أن يدفعها بالضرورة إلى قفزات كبيرة في المدى القريب.
وإجمالًا، يبقى الذهب في موقع مريح نسبياً، مستفيدًا من تراجع الدولار وتزايد المخاطر العالمية، لكن المحفز الحقيقي لاختراق مستويات المقاومة القوية يبقى مرهونًا بما ستحمله الأيام القادمة من إشارات نقدية وجيوسياسية. ومن وجهة نظري، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا في الأجل القصير هو بقاء الذهب في نطاق عرضي يميل للصعود التدريجي، على أن تزداد وتيرة الارتفاعات في حال ظهرت إشارات واضحة على توجه الفيدرالي نحو تيسير السياسة النقدية خلال النصف الثاني من العام، أو إذا تصاعدت حدة الأزمات الجيوسياسية إلى مستويات تؤثر بشكل مباشر على النمو العالمي وتدفقات رؤوس الأموال.
وفي ظل ما نشهده من تقاطع متشابك بين الاقتصاد والسياسة، فإن الذهب لا يزال يحتفظ بمكانته كأداة استراتيجية للتحوّط، سواء للمستثمرين المؤسسيين أو الأفراد، خاصة في فترات الغموض الحاد، كما هو الحال الآن. وحتى مع تذبذب الأداء اليومي، فإن الاتجاه العام يبقى داعمًا لصعود مدروس، وليس اندفاعيًا، إلى أن تتضح معالم الصورة الكلية للأسواق خلال الأسابيع القليلة المقبلة.