تراجع العائد وافتقار الخيارات يخلق فراغًا استثماريًا يهدد الاستقرار المالي

“حلمى”: خفض العائد على الشهادات يصعّب الخيارات أمام المواطنين وسط غياب بدائل استثمارية آمنة
“ثروت”: وقف شهادات العائد المرتفع خطوة طبيعية مع تراجع التضخم
“أنيس”: تطوير سوق المال هو الحل الأمثل لتجميع المدخرات ودعم الاقتصاد المصرى
أثار قرار البنك المركزي المصري بخفض أسعار الفائدة في اجتماعه الماضي يوم 17 أبريل جدلًا واسعًا في الأوساط الاقتصادية، وسط مخاوف من تداعياته على المدخرين، خاصة بعد إيقاف بنكي الأهلي ومصر لشهادات الـ27%، وخفض العائد على عدد من الأوعية الادخارية بنحو 2%، في ظل غياب بدائل استثمارية آمنة تضمن دخلًا مستقرًا للمواطنين.
وفي هذا السياق، ترصد “البوصلــــة” رؤى وتحليلات مجموعة من الخبراء المصرفيين والاقتصاديين بشأن الخيارات المتاحة لحماية مدخرات المواطنين، وتقديم بدائل آمنة تُسهم في تعزيز الاستقرار المالي وتنشيط الاقتصاد الوطني.
قال طارق حلمي، نائب رئيس بنك المصرف المتحد سابقًا، إن القرار سيخلف وراءه تداعيات سلبية، مؤكدًا أن القرار سيؤثر بشكل مباشر على شريحة واسعة من المواطنين الذين يعتمدون على هذه الشهادات كوسيلة استثمارية رئيسية لمدخراتهم.
وأكد أن إيقاف بنكي الأهلي ومصر إصدار شهادات الـ27%، إلى جانب خفض العائد على أوعية ادخارية أخرى بنحو 2%، سيضعف من جاذبية هذه المنتجات خاصة لدى العملاء الجدد، في ظل عدم توفر بدائل استثمارية آمنة تحقق عائدًا مناسبًا يغطي احتياجاتهم المعيشية.
ورغم أن التخفيض ليس بالحدة التي تُحدث أثرًا فوريًا كبيرًا، إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في تزامن خفض العائد مع ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وإلغاء الدعم التدريجي على المحروقات، ما يُفاقم الضغوط على المواطن ويقلص قدرته على التكيف مع المستويات الجديدة للأسعار.
وأشار إلى أن القطاع العائلي تحديدًا هو الأكثر تضررًا من هذه التوجهات، لأنه يبحث عن دخل شهري ثابت وليس مضاربات أو استثمارات طويلة الأجل، وفي ظل حالة عدم اليقين المسيطرة على الأسواق العالمية، وخاصة فيما يتعلق بالذهب والدولار، فإن هذه الأدوات لم تعد مناسبة لتلك الشريحة التي تبحث عن استقرار مالي.
وأضاف أن التوقعات المتزايدة باتجاه خفض إضافي في أسعار الفائدة خلال اجتماع البنك المركزي القادم، من شأنه أن يُعمّق الأزمة، في ظل استمرار غياب بدائل استثمارية رسمية وآمنة توفّر دخلاً مستقراً للمواطنين.
واختتم تصريحاته بالتأكيد على ضرورة أن تتحرك الدولة لتوفير أدوات مالية واستثمارية متنوعة تُناسب مختلف فئات المجتمع، وخاصة أصحاب الدخل الثابت، لتقليل الاعتماد الكلي على الشهادات البنكية واحتواء المخاطر الناتجة عن غياب الخيارات.
وأكد محمد ثروت، رئيس قطاع التجزئة المصرفية ببنك القاهرة، أن إصدار الشهادات الادخارية ذات العائد المرتفع كان إجراءًا استثنائيًا هدفه الأساسي كبح جماح التضخم المرتفع الذي أثّر سلبًا على مناخ الاستثمار وأداء الشركات، مشيرًا إلى أن هذه الأدوات لم تكن حلًا مستدامًا على المدى الطويل.
وأضاف أن أي اقتصاد قوي لا يمكن أن يعتمد بشكل دائم على شهادات ادخارية مرتفعة العائد، حيث إن ذلك يمثل عبئًا كبيرًا على القطاع المصرفي والدولة معًا، ومع بدء اتجاه التضخم نحو التراجع، وإن كان بوتيرة أبطأ، كما أشار إليه البنك المركزي، كان من الطبيعي أن يتم خفض العوائد ووقف إصدار الشهادات الاستثنائية مرتفعة العائد.
وأوضح أن البنوك ما زالت توفر مجموعة متنوعة من الأوعية الادخارية، تشمل الحسابات الجارية، حسابات التوفير، وصناديق الاستثمار بمختلف أنواعها، سواء كانت في الأسهم أو السندات أو صناديق أسواق المال وغيرها، وهو ما يوفر خيارات متعددة تتناسب مع مختلف شرائح العملاء.
وأشار إلى أن معظم عملاء القطاع المصرفي يفضلون أدوات استثمارية آمنة ومنخفضة المخاطر، مثل الشهادات، ولا يميلون بطبيعتهم إلى ضخ مدخراتهم في أدوات ذات طابع أكثر تقلبًا كـ الذهب أو الأسهم أو العقارات، مما يجعلهم غالبًا يُعيدون شراء شهادات الادخار عند استحقاقها لضمان العائد المنتظم.
ورغم قرار خفض العائد، أكد ثروت أن شهادات الادخار لا تزال جاذبة للمودعين، كونها تحقق عوائد حقيقية موجبة تتماشى مع تباطؤ معدلات التضخم واستقرار أسعار السلع، مما يحافظ على قوتها الشرائية ويجعلها خيارًا مقبولًا لشريحة واسعة من المواطنين.
أكد الدكتور محمد أنيس، الخبير الاقتصادي، أن هناك العديد من الأدوات والفرص الاستثمارية التي تتيح عوائد قوية للمدخرين وتسهم في تنشيط حركة الاقتصاد، لكنها لا تزال مهمّشة أو غير مستغلة بالشكل الكافي، موضحًا أن جذب الاستثمارات الجديدة وزيادة العائد على الاقتصاد المصري يتطلب تحولًا استراتيجيًا في التوجه نحو الاستثمار الأجنبي المباشر مستهدف التصدير، بدلًا من الاعتماد على الاستثمارات العامة أو الاعتماد في الاستدانة الحكومية، مشددًا على أن هذه الاستراتيجية رغم أهميتها، إلا أنها لا تُطبق فعليًا حتى الآن.
وأشار إلى أن الاستثمار المحلي والأجنبي يواجه ثلاثة معوقات رئيسية يجب إزالتها فورًا، وهي عدم توافر أراضٍ صناعية مجهزة، ونقص العمالة الفنية المدربة، فضلًا عن تعقيد الإجراءات والبيروقراطية، مطالبًا بتحويل الأخيرة من عنصر معيق إلى عوامل تيسير وتحفّيز للاستثمار.
ولفت إلى أن مصر تمتلك هذه المقومات ولكن لا تُحسن استغلالها، على عكس دول الجوار مثل المغرب وتركيا والسعودية والإمارات التي باتت أكثر جذبًا للاستثمار بفضل تهيئة بيئة استثمارية أكثر كفاءة.
وأوضح أن أفضل وسيلة لتجميع مدخرات المواطنين حاليًا هي تطوير سوق المال المصري (البورصة)، مع ضرورة نشر ثقافة الوعي المالي وتعليم الشباب مبادئ الاستثمار والتداول بما يتناسب مع قدراتهم ومستوياتهم المعرفية، مضيفًا أن إدراج الشركات سواء كبيرة أو ناشئة في البورصة، من شأنه أن يوسّع قاعدة الملكية، ويُسهم في زيادة الأرباح، فضلًا عن توفير مصادر تمويل مباشرة من المستثمرين دون الحاجة إلى القروض أو الاستدانة، مشيرًا إلى أن حجم رأس المال السوقي للبورصة المصرية لا يتجاوز حاليًا 15% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ90% في عام 2008، وهو ما يعكس الحاجة المُلحّة إلى تنشيط هذا القطاع الحيوي.
وحذر من أن خفض العائد على الشهادات البنكية قد يدفع بعض العملاء خاصة الباحثين عن عائد آمن إلى الاتجاه نحو منصات استثمار غير رسمية ومضللة، ما يرفع مخاطر التعرض لعمليات احتيال ونصب، خاصة في ظل غياب بدائل استثمارية رسمية تجمع بين الأمان والعائد المجزي.
وأكد على أن الشهادات البنكية ما زالت تلعب دورًا مهمًا في تلبية احتياجات شريحة واسعة من المواطنين، خصوصًا الموظفين وأصحاب المعاشات، لكنها لم تعد كافية وحدها لضمان استدامة المدخرات وتعزيز الاقتصاد القومي.